1. انقلاب 58 أقل الانقلابات الثلاثة سوءاً التي رزئت بها البلاد.
2. حاول داعمو انقلابي 1969م و1989م تلطيخ حزب الأمة بالموقف من الانقلاب الأول لكي يجدوا لخطيئتهم بدعم انقلابيهما سابقة من حزب عريق.
3. حزب الأمة كحزب مبرأ من انقلاب 1958م بشهادة السيد عبد الله خليل، وبموقف رئيس الحزب السيد الصديق رحمهما الله المعارض للانقلاب منذ البداية، بل المطالبة العلنية بإلغائه ثم العمل لمعارضته بعد ذلك.
4. لكن الانقلاب، مع أن الحزبين الكبيرين الأمة والاتحادي عارضاه، فإنه حصل على شرعية ما لأنه تم بإرادة رئيس الوزراء المنتخب، وبتأييد السيدين له.
5. هذا القدر من الشرعية دعمه أن قادة الانقلاب اتخذوا نهجاً مع ما ارتكب من مساويء ارخنا لها؛ كان أقل سوءاً من ما أعقبه من انقلابين بدليل:
· لم يحاولوا الشعار الواهم إعادة هندسة الإنسان السوداني.
· لم يحاولوا تحويل القوات النظامية إلى حزب سياسي معين.
· لم يحاولوا تدجين الخدمة المدنية لاتجاه حزبي معين كما فعل غيرهم.
· لم يجعلوا الاقتصاد الوطني أسيراً لمحاسيب حزب معين.
· تجنبوا المحورية في السياسة الخارجية.
· وعندما اتضح للفريق إبراهيم عبود رحمه الله اتساع المعارضة لنظامه اتخذ خطوات محسوبة لنقل السلطة للشعب.
6. من أخطاء نظام الإنقلاب الأول أنه اتخذ إجراءات أسلمة إدارية كان رمزها تحويل الإجازة الأسبوعية في الجنوب من الأحد إلى الجمعة. عارض المسيحيون ذلك بقيادة القساوسة الأجانب فطردوا. لذلك نشأت مواجهة داخلية ذات دعم خارجي ما مهد للحرب الأهلية.
عارضنا هذا الأسلوب ونشرت في أبريل 1964م كتيباً بعنوان “مسألة جنوب السودان” حللت فيه المسألة وقلت إنها أوسع من مسألة أمنية بل أسبابها دينية، ثقافية، اقتصادية وتتطلب الحرية لبحثها وإيجاد الحلول غير الصدامية. استنكرت الحكومة هذا الموقف واستدعاني وزير الداخلية منذراً.
وفي منتصف أكتوبر دعا طلاب جامعة الخرطوم عميد كلية القانون آنئذٍ د. حسن الترابي ليحاضرهم حول قضية الجنوب. تمت المحاضرة وحللل أسباب المسألة وقال إن حلها يتطلب توافر الحرية مدخلاً له.
الفكرة وجدت تجاوباً واسعاً ونظم الطلبة ندوة في داخلية البركس لمتابعة بحث القضية.
سلطات الداخلية منعت هذه الندوة وبعد قيامها تصرفت بحماقة باستخدام السلاح الناري لتفريقها.
وكانت النتيجة مؤلمة فالطلبة عزل والمسألة خلاف رأي لا مقاومة.
استشهد أكثر من طالب أشهرهم أحمد قرشي طه.
الهيئة القضائية قادت موكباً انضمت إليه هيئات نقابية للمطالبة بالتحقيق في حادثة الجامعة.
سلطات الداخلية ارتكبت حماقة ثانية بحظر الموكب فأدت المواجهة لإعلان الاضراب السياسي العام.
الإمام الشهيد الهادي المهدي دعا لمجلس في غياب حزب الأمة وتقرر إصدار مذكرة تدين ما حدث في الجامعة وتطالب بإنهاء الحكم العسكري واسترداد الديمقراطية.
وبتداعيات الأحداث تكون مركزان: مركز في نادي أساتذة جامعة الخرطوم تجمعت فيه جبهة الهيئات. ومركز ببيت المهدي تجمعت فيه القوى السياسية.
حرص المركزان على دعم الإضراب العام، ودعم المظاهرات المساندة له.
كونا مجموعة عمل لعيادة الجرحى وللتواصل مع أسرة الشهيد أحمد قرشي طه أن يستلموا الجثمان وأن يعلموا أننا جميعأً سوف نشيعه، وقد كان. وفي مكان نقل الجثمان جنوب الخرطوم إلى ناقلة صلى الجميع على الجثمان وفي تلك اللحظة وبسرعة اتفق على تقديمي لإمامة الصلاة، وقد كان.
7. أرسل لنا الفريق إبراهيم عبود رحمه الله ضابطين عظيمين هما عوض عبد الرحمن صغير والطاهر عبد الرحمن المقبول لمقابلتنا في بيت المهدي، رحبنا بهما وأرسلنا للأخوة في نادي الأساتذة للحضور فحضروا. وبعد محادثة قصيرة اتفق أن يلتقي وفد منا قيادة الحكومة في القصر، تكون الوفد مني ومن السيد مبارك زروق، والسيد عابدين إسماعيل، ود. حسن الترابي. حتى تلك اللحظة كان جماعة حزب الختمية مصنفين مؤيدين للنظام وقد دعموه بمذكرة سميت مذكرة كرام المواطنين. ولكنني حرصاً على الوحدة الوطنية طلبت منهم المشاركة معنا في الوفد للقصر فانتدبوا السيد أحمد السيد حمد. وفي مرحلة المفاوضات انضم إلينا بغير تفويض من الجبهة القومية الموحدة (وهي التنظيم الذي أصبح يضم الأحزاب وجبهة الهيئات) السادة: بابكر عوض الله، طه بعشر، الأمين محمد الأمين، وأحمد سليمان.
كان هذا الاجتماع الأول أعقبه اجتماع آخر في قيادة القوات المسلحة، وقبل أن يذهب وفدنا للاجتماع الأول وفي رحاب بيت المهدي رأينا أن نلزم أنفسنا بميثاق وطني يعبر عن مطالب الشعب المشروعة، ميثاق وضعت نصه وبعد التداول اعتمدناه.
الاجتماع الأول في القصر كان بين وفدنا التساعي والفريق إبراهيم عبود وأعوانه، ثم اتفق على عقد اجتماع آخر بيننا وبين قادة عسكريين مفوضين في رئاسة القوات المسلحة.
استطعنا بعد الاجتماعين أن نبرم اتفاقاً قومياً أهم ما فيه: كفالة الحريات العامة والحل السلمي لمشكلة الجنوب، ونقل السلطة لحكم قومي انتقالي يستمر لمدة عام، ثم تجري بعده انتخابات عامة حرة ونزيهة.
هكذا صمد الشعب في حراسة مشارع الحق، واسترد حقه من سلطان الاحتلال الداخلي الأول بأسلوب سلمي قومي رائع.
هكذا وضع الشعب السوداني سنة الثورة على النظم الاستبدادية بالقوة الناعمة ما جعلها سنة متكررة في المجالين العربي والأفريقي.
في كثير من بلداننا العربية والأفريقية اليوم استقطاب حاد بين حكام محتكرين للسلطة على أنفسهم وسدنتهم، مغيبين للمشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون وللمعاني الأخرى اللازمة للتوازن أي كفالة الديمقراطية السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والدولية.
ما أجدرنا في ذكرى 21 أكتوبر المجيدة أن نستلهم معانيها لاستنهاض الهمة الشعبية، والعمل على إقامة نظام جديد لبناء الوطن في ظل السلام العادل الشامل وحقوق الإنسان والحريات العامة المعالم التي سجلتها 21 أكتوبر 1964م بأحرف من نور في ديوان التاريخ.
أم درمان – دار الأمة
21/10/2017م