بِسْم الله الرحمن الرحيم
خطبة عيد الأضحى المبارك 1438هـ
التاريخ 21/8/2018
الخطبة الأولى
اللهُ أكبرُ.. اللهُ أكبرُ.. اللهُ أكبرُ
بِسْم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ والصّلاةِ والسلامِ علَىَ رَسُولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ومَنْ وَالَاهُ. وبَعْد-
أحْبَابي فِي اللهِ وأخوانيِ فيِ الوطنِ العزيز،
السّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، وبَارَكَ اللهُ فِي عِيْدِنَا جَمِيْعَاً، وبَعْدُ-
لَقَد قَضَت ضَروراتُ الجهادِ المدني أن نحْضَرَ العيدَ خارج الوَطَن. ولكن الوَطَنَ إنْ لَمْ نَكُنْ فِيْهِ فَهُوَ فِيْنا. نِظَامُ الحُكم الحالي من استخفافهِ بشأن مواطنيه أنه لم يُجْر حواراً حقيقياً إلا بوساطةٍ أجنبيةٍ، وفي خارج الوطن، لذلك أبْرَمَ كل اتفاقياته خارج الوطن: في كينيا، في أوغندا، في نيجيريا، في اسمرا، في قطر، وهلمَّ جراً. إنه نظام تغريب للقضيةِ الوطنيةِ. غيابُنَا الآن متصلٌ بالقضية الوطنية كما تتابعون، وسوف ينتهي إن شاء الله عودةً إلى الوَطَن.
أحْبَابُنا،
إنَّ رِسَالةَ الوحيِ للإنسانِ واحدةٌ. أحْيَاها إبْراهيمُ عَليهِ السلامُ، وبلغها الأنبياء فيما بعد. نخصُّ بالذكرِ مِنهم موسى، وعيسى، و محمد الخاتم عليهم جميعاً الصَّلاةُ والسلام.
رسالةُ الوحيِ في أمْرِ الثوابِتِ واحدةٌ هِيَ: التوحيدُ للهِ، النبوةُ، مكارمُ الأخلاقِ، والمعَادُ. قال تعالى:(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[1]. وتأكيداً لهذا المعنى قال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: “َالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ”[2].
الرسالةُ المحمديةُ امتازَتْ على غيرها بثلاثةِ أمورٍ: أنَّها الخَاتمةُ، وأنهَّا للناسِ كافةً، وأنها اعتمدت مواهبَ الإنسانِ: القبسُ الرُّوحي، والعقلُ، وحريّةُ الاختيار.
في كلِّ الرسالاتِ فإنَّ المسائلَ الاجتماعية مُتحركةٌ، كما قال أئمة الاجتهاد بتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال. المعنى الذي عبر عنه الإمام المهدي “لكل وقت ومقام حال، ولكل زمان وأوان رجال”.
نحنُ الآن في موسم الحج. وللحج مقاصدَ، هي: ترسيخُ عقيدةَ التوحيدِ، واستنزالُ رحمةِ اللهِ، ومناجاتُهُ، والرمزُ لوحدةِ الأمةِ، وتجريدُ الناسِ مِن مظاهر التفرقة بينهم، وإتاحةُ مجالٍ لتعارفَ بينهُم، وليشهدوا منافِعَ لَهُم. هنالك مستجدات توجب اجتهادات، فعدد المسلمين الْيَوْمَ بليونين إلا قليلاً، وقد كانوا مليوناً واحداً. ولتجنب الزحام يُرجى أن يكتفي المستطيعون بحجة واحدة، ويُرجى تكوين صندوق (بدل حج) يساهم في تمويله من نوى الحج منهم مرة ثانيةً أو ثالثةً، ويُوجَّهُ عائدُهُ لتمويلِ فرِيْضَةٍ أخْرَى هي إغاثةُ المحتاجين التي أوجبها الله بقوله:(لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم)[3]. وقوله: (أَرَءَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)[4].
الاستطاعةُ المقصودةُ ذاتيةٌ، أما الحجُّ الممولُ مِن جِهَاتٍ أُخْرَى فهُوَ علاقاتٍ عامةٍ لا عِبَادة. وقياساً على هذا المعنى عطل عمر بن عبد العزيز، رضى الله عنه،كسوةَ الحجِّ، وقال:أولى بهذه النفقة أن نطعم بها كباداً جائعةً.
أعادَ اللهُ الحجَّاجَ سالمينَ إلى دِيَارهم، وتقبل تَقْوَاهم.
الأُضْحِيةُ سُنَّةٌ مؤكدةٌ. وتُحَاكِي قِصَّةَ إبْرَاهيمَ وإسماعيلَ عليهِمَا السَّلام، وهِيَ للمُستطيعين، ويَجِبْ خُلُوُّها مِن العُيُوبِ، ومَعْنَاهَا يَتَجَاوَزُ مَبْنَاها:(لَنْ يَنَال اللَّه لُحُومهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[5].
ومِنْ بَابِ التقوى إغاثة المحتاجين، فيرجى أن يساهم المستطيعون بثمن الأضحية في “صندوق” لتمويل إغاثات إنسانية واجتماعية. على أن يتفق أهل كل جماعة على ذبيحة واحدة رمزاً للقربان.
المؤسف أن هذه الاجتهادات مع تطابقها مع مقاصد الشريعة، تعارضها تقاليد اجتماعية نقلتها من العبادة للعادة. ولكن يرجى أن يدعمها المجتهدون الذين تشدهم المعاني لا المباني، إلى أن يأتي يوم ينظمها القانون.
أحبابُنَا،
لقد تعرَّضَت أمتنا لممارسات ظالمة وافدة شهد بذلك شهود من أهلها، أذكر من هؤلاء:
- قال مايكل اورن في كتابه عن سياسة أمريكا في الشرق الأوسط: لا يوجد في مجال الهندسة الاجتماعية في العالم عمل أكثر استفزازاً من تأييد أمريكا لقيام دولة يهودية في عالم عربي شديد العداء لها.
- وقال بول كينيدي في وول ستريت جورنال (5/10/2001): لو وضعنا أنفسنا في مكان سكان الشرق الأوسط، ووضعناهم في مكاننا وفعلوا بِنَا ما نفعل بهم الآن، فسوف يكره الأمريكيون هذا العملاق الشرق أوسطي الافتراضي ويحاولون إيذاءه.
- وقال غراهام فوللر في مجلة السياسة الخارجية عدد يناير/فبراير 2008: إذا حذفنا الإسلام من مسار التاريخ، وعومل سكان منطقة الشرق الأوسط كما يعاملون الآن مع عدم وجود إسلام فإن الوضع في المنطقة سوف يؤول إلى ما هو عليه الآن. في غياب الإسلام ومع السكان الافتراضيين غير المسلمين فإن العالم سوف يشهد الخلافات الدامية المستمرة التي لا تزال حروبها وصراعاتها على الساحة الجيوسياسية. لو لم تتذرع المجموعات الافتراضية غير المسلمة بالدِّين لوجدت راية أخرى تعبر في ظلها عن هويتها وسعيها للاستقلال.
- وكما قال مارك كيرتس في كتابه مفارقات القوة:ما دبّر ضد حكومة محمد مصدق الوطنية، وما صحب ذلك من تغريب الثروة كان له دور مهم في التعبئة التي أدت للثورة الإسلامية في إيران.
والتدخلات الوافدة تطول. فلولا المشهد الأفغاني ما كانت القاعدة، ولولا احتلال العراق ما كانت داعش. وهم يتدخلون في المنطقة لحماية مصالحهم النفطية كما قال رئيس وزراء قطر السابق: ننفذ فيما يتعلق بحجم إنتاج وتسويق النفط ما يطلبون منا.
ويتدخلون لحماية إسرائيل وتوسعاتها كما قال الأستاذان جون مير شايمر وولت استيفن في كتابهما عن اللوبي الإسرائيلي: منذ 1967 ظلت السمة المتكررة لسياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هي علاقتها بإسرائيل دعماً وتأييداً.
هذه التدخلات في المنطقة جعلت القوى المتدخلة حريصة على تعميق الخلافات بين سكان منطقة الشرق الأوسط الكبير، كما قال الرئيس الأمريكي الأسبق -ريتشارد نيكسون- مشيراً للحرب العراقية الإيرانية في كتابه نصر بلا حرب: هذه الحرب ما نتمنى، ونتمنى كذلك ألا ينتصر أحد طرفيها.
الواجب الإستراتيجي والديني الآن؛ إدراك أن الحروب الطائفية والقومية الحالية سوف ترهق أطرافها، ولن يكون فيها منتصر لأنها تستمد من جذور موروثة، ولأن كل طرف يستطيع أن يستنصر بجهة إقليمية أو دولية إن أراد.
هناك خلافان بين أهل السنة والشيعة، هما: خلاف حول أحداث التاريخ، وخلاف حول ولاية الأمر؛ لا يمكن حسمهما بالإقناع ولا بالقوة. وينبغي أن نقول في أمرهما: (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[6]. ثم يتفق على “ميثاق المهتدين” الذي يقوم على ستة مبادئ:
- الاعتراف المتبادل أننا أهل قبلة واحدة، وعقيدة واحدة. تقوم على: التوحيد، والنبوة، ومكارم الأخلاق، والمعاد، والأركان الخمسة.
- أهل السنة يلتزمون بمكانة آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم كما هو دأبهم في تحيات الصلاة، ويمحون آثار لغة الروافض.
- الشيعة يلتزمون بمكانة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم سيما أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة رضي الله عنهم. ويمحون لغة النواصب.
- يحترم الشيعة المجموعات السنية في أوساط أغلبيتهم، بكامل حقوقهم الإيمانية والإنسانية والمواطنة.
- يحترم أهل السنة المجموعات الشيعية في أوساط أغلبيتهم، بكامل حقوقهم الإيمانية والإنسانية والمواطنة.
- الاعتراف المتبادل بمذاهب أهل السنة الفقهية وبمذهبي الشيعة باعتبارها اجتهادات بشرية، واختلافات في الفروع بلا تعصب، وبلا تكفير، وبلا قفل لباب الاجتهاد.
وعمليا فيما يتعلق بأمر ولاية الأمر فإن الظروف المختلف عليها حول الخلافة والإمامة قد اختفت. فأهل السنة لن يتفقوا على قيادة واحدة. والإمام الشيعي سوف يظل غائباً.
وعملياً فإن الشعوب الإسلامية تتطلع لنظم حكم جديدة تحقق العدالة كما قال ابن القيم: “إذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه”. نظم حكم تقوم على: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون. نظم تطبق على دول قطرية تحقق -في الإطار العربي- تعاهداً، وكذلك تعاهد في الإطار الإسلامي الجامع. أما الحروب المشتعلة الآن في منطقتنا فيرجى اتخاذ قرار قاطع بوقفها في أقصر مدة ممكنة، وتكوين صندوق لإزالة الدمار الذي حققته.
هذه مهمة يقوم بها حكماء، ويرجى أن يتجاوب معهم الحكام.
ينبغي أن توقف هذه الحروب. وأن يوضع حد لتوتر دول مجلس التعاون الخليجي -على ضوء الطيبات العشر التي اقترحناها لمؤتمر القمة العربي الأخير بالرياض- للمشاركة في موقف عربي موحد يبرم معاهدة أمن وتعايش ثلاثي الأضلاع: عربي، إيراني، تركي.
هنالك مصالح تتطلب تمدداً نحو جنوب شرق آسيا، ومصالح تتطلب تعاوناً تنموياً بين ضفتي البحر الأحمر. وهما منطقة غرب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء.
أحبابنا،
هنالك تيارات مستجدة في الغرب تقوم على إثارة الكراهية والمخاوف، وتتوجه عدائياً ضد الإسلام والمسلمين. هذه التيارات مخربة. ومن شأنها أن تتجاوب مع أطروحات التطرف والعنف في بلداننا ما يوجب التصدي لها.
هذا التيار الغربي المؤسس على الكراهية والمخاوف، تحالف مع تيار عنصري في إسرائيل، ما أدى الآن لاعتبار القدس موحدة عاصمة لإسرائيل، وإجازة قانون يهودية الدولة. القانون الذي يجعل كل من ليس يهودياً مواطناً مارقاً، ويقفل الباب أمام العودة. أي تصفية القضية الفلسطينية، وجعل إسرائيل دولة فصل عنصري.
هذه المؤامرة نسأل الله أن تهزمها العزيمة الفلسطينية، والعزيمة العربية، والعزيمة الإسلامية، بل التيارات الدولية العادلة.
أحبابنا،
ما نقول عن تيارات الاستكبار الدولي، والاغتصاب الإسرائيلي لا ينطبق على العلاقة المطلوبة مع المسيحية واليهودية. لقد أوضحنا في أبحاث أخرى أن توراة اليهود، وإنجيل يوحنا لدى المسيحيين حافلة بنصوص تبشر بقدوم محمد صلى الله عليه وسلم، كما ورد في القرآن. إن اتفاق الأديان الإبراهيمية الثلاثة يتطلب إبرام “ميثاق المهتدين”. وبالقياس يشمل الديانات الأخرى “ميثاق الإيمانيين”، لأن السلام العالمي نفسه يتطلب السلام بين الأديان.
ومع ذلك، فإن للإسلام خواص تجعله صالحاً لإعطاء أساس روحي وأخلاقي للإنسانية.
هناك حاجة لنهج عالمي موحد في العصر الحديث مطلوب في كل المجالات لتحقيق مصلحة كوكب الأرض، لا سيما مسألة البيئة الطبيعية. أوردت الأكاديمية العلمية دراسة أجراها 16 من علماء البيئة جاء فيها: إن كوكب الأرض في الطريق ليصير الفرن الأرضي. ويقدرون أن ذلك سوف يؤثر سلباً على سكان الأرض بارتفاع الحرارة، وارتفاع مناسيب البحار، واختفاء الغابات، وضمور الإنتاج الزراعي. بل يقدرون موت كثير من البشر إذا لم تتخذ إجراءات جذرية لخفض الغازات الدفيئة، وامتصاص الكربون.
كذلك، تبين، كما قالت أوكسفام في مؤتمر دافوس الأخير، أن توزيع الثروة والدخل داخل الأقطار وفيما بينها يؤدي حتماً لاضطرابات اجتماعية. إذ يملك 62 شخصاً ما يساوي نصف ثروة سكان الأرض.
هنالك عوامل تجعل الإسلام، بفهم التدبر والحكمة، صالحاً لتزويد قضايا الساعة ببعد روحي وأخلاقي. وهي:
- الاعتراف بالإنسان كإنسان بغض النظر عن اعتقاده.
- الاعتراف بالتنوع الديني والثقافي كجزء من نظام الكون.
- الاعتراف بمصادر المعرفة العقلية والتجريبية، واعتماد سَنَن الطبيعة.
- الاعتراف بالأساس الموضوعي للأخلاق.
- الاعتراف بأهمية البيئة الطبيعية ومسئولية الإنسان في رعاية سلامتها، من واجبات التقوى.
- التطلع لتجاوز المحلية نحو العالمية.
- الخلو من سلطة دينية متحكمة.
حقاً، الرسالة المحمدية تصلح لكل العصور لا لعصر واحد:
لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمــــــــــــــــــــــــــا أراد الله جل جلاله أن يخرج الكون من الظلمات
أهداك ربك للأنام يا حبنا فيضاً من الأنوار والرحمات
العيد مناسبة سرور لكل الأجيال، لا سيما الأطفال فلذات أكبادنا تمشي على الأرض. ومهما كانت الظروف حالكة يرجى ألا نحرم طفولتهم من البهجة والمسرة.
بعض بناتنا وأخواتنا يحرصن على رونق المظهر كما ينبغي، ولكن نرجو تجنب وسائل التبييض الكيماوية المضرة للصحة والمسرطنة. فإن للسمار جماله، كما لسائر الألوان الطبيعية التي خلقها الله. ومع الحرص على استقبال العيد بالحناء الطبيعية، كذلك ينبغي تجنب الصبغة بدلاً عن الحناء لعظيم ضررها على الصحة.
يأتي العيد هذا العام وقد فجعنا في أبنائنا وبناتنا الطلاب شهداء البحيرة من المناصير، وقبلهم بناتنا شهيدات مدرسة دار السلام. في كتابي “أيها الجيل” تحدثت عن حقوق الأطفال وضرورة أن ينشئوا في ظروف تكريم، فتراعى حقوقهم ويحاطون بالمحبة والاهتمام المستحق. إن مأساة المناصير أفزعتنا جميعاً وفضحت كيف تم عقاب الذين رفضوا الانصياع لخيار التهجير بحرمانهم من الخدمات الأساسية وتعريض أبنائهم وبناتهم للمخاطر من عقارب حصدت أرواح العشرات منهم، ثم الرحلات المدرسية اليومية المحفوفة بالموت المحقق. إننا إذ نتقدم بتعازينا الحارة لأهلنا المناصير ولأهالي دار السلام وللشعب السوداني بأجمعه والذي دهست قلبه تلك الأحداث، وإذ نعلن كذلك تضامننا مع متضرري السيول والأمطار في النهود وكسلا بل حتى في العاصمة الخرطوم وغيرها، فإننا نرفع كل مظاهر الاحتفال بالعيد التي درجنا عليها: موكب الجياد والمعايدات في دار الهيئة ودار الحزب، سائلين الله أن يربط على قلوبنا وقلوب ذوي الضحايا المفجوعين، ويرفع عن بلادنا هذا البلاء العظيم ويقيم عليها نظاماً رحيماً قميناً بحكم هذا الشعب الطيب الكريم.
اللهم اهدنا واهد أبناءنا وبناتنا. وارحمنا وارحم آباءنا وأمهاتنا. وبارك في بلادنا أرض جدودنا، ومنبت رزقنا. وأهد أمتنا بوعدك: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[7]. آمين.
الخطبة الثانية
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر
بِسْم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة والسلام على الحبيب محمد وآله مع التسليم، وبعد-
أحبابنا في الله، وإخواننا في الوطن العزيز،
أمتنا قد تداعت عليها الأمم، وأثقلتها عيوب ذاتية فصار حالها كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»[8]. هذا القعود صوره الشاعر السعودي غازي القصيبي بقوله:
أيها المخترع العظيم
يا من صنعت بلسماً
قضى على مواجع الكهولة
وأيقظ الفحولة
أما لديك بلسم يعيد في أمتنا الرجولة؟
وبكى تميم البرغوثي:
والحاكِمونَ بِلا دِينٍ إذا عَبَرُوا فِي جَنَّةٍ أَصْبَحَتْ مِنْ شؤمهم جَرَدَا
أَنْيَابُهُمْ فِي ذَوِي الأَرْحَامِ نَاشِبَةٌ وَلِلأَعَادِي اْبْتِسَامٌ يُظْهِرُ الدَّرَدَا
هناك بعض النظم في بلاد مسلمة في آسيا، كما في ماليزيا، تظهر حوكمة رشيدة. ولكن في العالم العربي، باستثناء قليل، تظهر درجة عالية من السوء في كافة مناحي الحياة، والاستبداد في الحكم، حتى أن بعض المعلقين صاروا يسمونها “الاستثنائية العربية” التي وثق لها تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية لعام 2002، ما جعل كاتباً وهو رالف بيترز يقول: ينبغي أن نعتبر البلدان العربية من سكان العالم الإسلامي عاجزة عن التحول البناء.
السودان مع انه الآن مصنف من الدول الفاشلة والفاسدة بالمقاييس الدولية، فإن به عدة عوامل تجعله واعداً من حيث القدرة على الخروج من المستنقع الذي يقبع به حالياً:
- الإسلام والعروبة لم تدخلا السودان في ظل دولة مركزية، بل نتيجة تحول مجتمعي.
- التجربة الديمقراطية انفردت في المنطقة بصفاء ليبرالي نمت في حضنه منظمات سياسية حقيقية.
- النظم الاستبدادية التي حكمته، مهما طال عهدها، زعزعتها المطالب الشعبية الديمقراطية وأجبرتها على سلخ جلدتها مرات حتى هوت.
- وخاضت البلاد تجارب مُرة، أثمرت وعياً عميقاً بدور إدارة التنوع.
- والنظام القابض الحالي محاط بعوامل الحاجة الملحة للتغيير، وأهمها:
- رفع شعاراً إسلامياً وأفرغه من مقاصد الإسلام العدلية في الكرامة، والحريّة، والعدالة.
- ورفع شعار إنقاذ البلاد من التمرد ولكنه انهزم أمامه، فضاعت وحدة البلاد.
- واتبع سياسات انحياز إثني، فأشعل حرباً أهلية في دارفور مستمرة منذ 2002 وحتى الآن.
- أفلح في الاستفادة من اتفاق أبرمناه مع شركة شيفرون استخرج بموجبه البترول. ولكنه بدد عائد البترول بعد أن جعل اقتصاد البلاد يعتمد عليه، في أسوأ ظاهرة لمتلازمة “المرض الهولندي” المرض الاقتصادي المعلوم (ويطلق على الاعتماد على مورد ريعي وحيد كالنفط وإهمال الموارد المتجددة كالزراعة).. ولَم يستعد لانفصال الجنوب المحتمل، فدخل منذ 2011 في أزمة اقتصادية متفاقمة.
- وزعم أنه لولا انقلابه على الديمقراطية في 1989 لبلغ سعر الدولار20 جنيهاً سودانياً. ولكن السياسات الخاطئة التي اتبعها جعلت سعر الدولار الآن ما بين 40 إلى 50 ألف جنيه سوداني للدولار الواحد!
- وعطل دولة الرعاية الاجتماعية لصالح الصرف الدفاعي والأمني، فزادت نسبة الفقر والعطالة وهجرة المواطنين إلى خارج الوطن بصورة غير مسبوقة.
- وادعى أنه جاء لرفع المعاناة عن الشعب، ولكن السياسات التي اتبعها جعلت أسعار كافة السلع بما فيها الأساسية باهظة التكاليف بصورة لا تطاق. وفي مقارنة عابرة بين أسعار المواد الأساسية عام 1989 وأسعارها الْيَوْمَ في 2018 نجد أن سعر رطل السكر الْيَوْمَ يشتري 50 جوال سكر عام 1989. وسعر الرغيفة الواحدة الْيَوْمَ يساوي 15 ألف رغيفة يومئذٍ.
- حطم مؤسسات الدولة المنتجة مما أفقر الناس إذ يقدر الاقتصاديون أن نسبة الفقر تبلغ 80% في المدن و90% في الريف، فأصبحت المعيشة جحيماً لا يطاق.
أحبابنا،
الحرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق سببها عيوب تطبيق اتفاقية سلام نيفاشا، ما ترك قوى مسلحة شمالية: الفرقة التاسعة والعاشرة، شمال الحدود دون تنفيذ البروتوكولين الخاصين بالمنطقتين. أما في دارفور، فهناك غبن تاريخي يتمثل في غياب التنمية والشعور بالتهميش. ونسبة لظروف بيئية معلومة حدث تنافس على الموارد الطبيعية بين مجموعتين من المواطنين في دارفور الكبرى. انحازت الحكومة لمجموعة ضد الأخرى، مما دفع بعض أبناء المجموعة الأخرى لمقاومة مسلحة ضد النظام.
قبل انقلاب 1989 لم تكن هناك جماعة في دارفور تحمل السلاح ضد الحكومة المركزية. ولكن لأن النظام نفسه قام واستولى على الحكم بمنطق القوة، وأعلن انه لا يفاوض إلا حملة السلاح، فقد اندفعت جماعات في دارفور لتكوين حركتين لمقاومة النظام باسم حركة تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة.
ولجأ النظام لخطة قصيرة النظر باستغلال التباين الإثني في دارفور، وتحريض القبائل العربية لدعم حملاته العسكرية.
يرجى أن تتصالح القبائل كلها وتتجنب الاستقطابات الإثنية، وهو ما سعينا له مع كل النزاعات القبلية وأرسلنا وفوداً عديدة تسعى للمصالحات ووقف العنف بين القبائل في دارفور وغيرها، آخرها الوفد الذي سعى للتوسط بين أهلنا اللحويين وأهلنا الهوسا في القضارف. فنحن في السودان كما قالت الشاعرة السودانية:
هنا العروبة في جذر الزنوجة
في فرادة جمعت كل الأفانين
لقد أوضحنا في كتابنا “الهوية السودانية بين التسبيك والتفكيك” ما تتطلبه مراعاة شروط التسبيك تجنباً لعوامل التفكيك.
أحبابنا،
ومهما حاولنا نصح النظام صعر خده واستكبر استكبارا:
- عزلنا تماماً من أية مشاركة في الحوار الذي أدى لاتفاقية يناير 2005. ومنذ البداية درسنا ما اتفق عليه، وأعلنا النتيجة في مايو 2005، مؤكدين أن بنية وبنود الاتفاقية قاصرة عن إحلال سلام وعن تحقيق الوحدة والتحول الديمقراطي. وللأسف قد كان.
- ولدى محادثات سلام دارفور في أبوجا 2006، سألنا المفاوض باسم النظام المرحوم د. مجذوب الخليفة، فأعطيناه رأياً قاطعاً. هذا الرأي عندما عرضته على بعض الذين كانوا من المشاركين في التفاوض؛ قالوا إن هذا الرأي لو كانت الحكومة عرضته علينا لأبرمت اتفاقية سلام في دارفور ونفذت. ولكن المرحوم رفض الرأي الذي عرضته عليه بحجة أنه يتعارض مع ثوابت النظام الحاكم.
- بعد تنفيذ اتفاقية نيفاشا، أدت عيوبها لانفصال الجنوب، واحتدمت الحرب في دارفور، والتخلف في تنفيذ بروتوكولي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ظهر لنا أن حرب دارفور سوف تتواصل وأن الحرب في المناطق الجنوبية سوف تتجدد باسم الجنوب الجديد. وفي اجتماع لنا برئيس النظام في 24/3/2011 قلنا له: لاحتواء هذه الحالات الحربية، وتجنباً للانقسام السياسي في البلاد هاك برنامجاً قومياً من 10 نقاط، ونقترح أن تدعو 8 أشخاص محددين، وأن تعرض عليهم النقاط للموافقة عليها أو تعديلها، لينفذها رئيس وفاقي. وقدمت له هذا الرأي مكتوباً. ولكنه لم يستجب، وبعد حين اشتعلت الحرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق واتصلت الحرب في دار فور.
أحبابنا،
نظام الحكم في السودان الآن يقف مواجهاً 63 قراراً مضاداً صادراً من مجلس الأمن الدولي، أكثرها تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وأخطرها القرار 1593، الذي بموجبه قرر مجلس الأمن بالإجماع إحالة قيادات سودانية للمحكمة الجنائية الدولية، وألحق بهم اتهام لرئيس النظام بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجريمة الإبادة الجماعية.
هذه الفظائع مجتمعة جعلت النظام محاصراً ويائساً، ما جعل قيادته تناشد رئيس دولة كبرى -روسيا- لحمايته. وجعلته يخالف الأعراف متجاوزاً أجهزة الدفاع النظامية للاعتماد على حماية جهات غير نظامية. لقد صار الاستمرار في الحكم هدفاً في حد ذاته بلا أيديولوجية أو برنامج، بل الاستمرار في السلطة للمحافظة على مكاسب السلطة والحماية من ملاحقة المحكمة.
وجود قوى سياسية مسلحة معارضة للنظام يعود مباشرة لأمرين:
الأول: التقصير في تنفيذ اتفاقية سلام نيفاشا ما أبقى على فرقتين مسلحتين في الشمال دون تنفيذ الالتزام السياسي المنصوص عليه في بروتوكولين.
الثاني: الانحياز الإثني في إدارة دارفور ما أدى منذ 2002 لنشأة حركتي مقاومة.
هؤلاء جميعاً كونوا في يونيو 2012م الجبهة الثورية السودانية. وفي يناير 2013 عقدت هذه الجبهة مؤتمراً في كمبالا. ذلك المؤتمر صدرت عنه “وثيقة الفجر الجديد”. ومع أننا دعينا لهذا الاجتماع، إلا أننا رفضنا ما ورد في تلك الوثيقة من اعتبار العمل المسلح أحد وسائل إقامة نظام جديد، وأيضاً ما ورد فيها من إقرار تقرير المصير للمناطق المتظلمة. وبعد تداول لاحق بيننا اتفقنا مع الجبهة الثورية في أغسطس 2014 على “إعلان باريس” الذي اتفق فيه على إقامة النظام الجديد بوسائل خالية من العنف، والدعوة للمواطنة المتساوية أساساً للحقوق والواجبات، والتخلي عن الحديث عن المطالبة بالدعوة لتقرير المصير. ثم، وفي مرحلة لاحقة في ديسمبر 2014 اتفق على تكوين أكبر باسم “نداء السودان” في أديس أبابا.
صار نداء السودان تكويناً جامعاً لقوى سياسية مدنية، وقوى الجبهة الثورية، ومنظمات مجتمع مدني. كانت العلاقة التنظيمية بين مكونات نداء السودان فضفاضة، ولكن في مارس 2018 تقرر تكوين هيكل تنظيمي موحد لها. واتفق أن يكون عمل النداء السياسي الموحد معارضة سلمية، مع استمرار القوى الثورية في تكوينها الخاص. أي نظام واحد ومساران. وضُمن هذا المعنى في دستور النداء.
وكان واضحاً أن بعض قواعد الجبهة الثورية غير راضية على قيادة مدنية في القمة، وبعض قواعد القوى المدنية غير راضية على مشاركة القوى المسلحة في تنظيم واحد وإن اختلف المساران. ولكن الثقة المكتسبة بين القيادات امتصت أية تحفظات.
في يوليو 2018 دعت فصائل الجبهة الثورية لاجتماع في باريس وقررت إعادة توحيد الجبهة الثورية، واتخذت قرارات ذات مضمون سياسي دون أن يكون للفصائل الأخرى في النداء أية مشاركة.
معلوم أن الجبهة الثورية سوف تستمر في تكويناتها المسلحة إلى أن يبرم اتفاق سلام عادل شامل، وتدخل في هيكلة جديدة للقوات المسلحة السودانية.
ومعلوم أن القوى المسيّسة المسلحة لا تنتهي إلا بموجب اتفاق سياسي، كما وثقت لذلك منظمة راند الأمريكية بدراسة 684 حركة مسلحة في العالم في الفترة ما بين 1983 و 2008م. فعندما أُبرم الاتفاق البريطاني مع الجيش الجمهوري الأيرلندي كان عدد جنوده 250 فرداً فقط.
كان ولا زال موقفنا المبدئي من العمل لنظام جديد بالقوة المسلحة مرفوض. لأنه سوف يجبرنا على الاستعانة بجهة أجنبية، وحتى إذا حقق إسقاط النظام بالقوة فإنه سوف يضطر لإقامة نظام تحميه القوة، أي سيكون على حساب تحقيق الديمقراطية.
لإقامة تنظيم واحد لقوى مدنية وأخرى مسلحة، ينبغي أن تكون القيادة كذلك موحدة مثلما كان الحال في الجبهة الوطنية التي حققت انتفاضة 1976م، والحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها المسلح. أما العلاقة التنظيمية بين مكونات تختلف في طبيعتها بين مدنية ومسلحة عسكرية تفرض عليها تنسيقاً لا تقبله ظروف العمل المسلح. ومهما قيل عن مسارين تحت قيادة موحدة فإن هذه العلاقة تشل حركة القوى المدنية سياسياً داخل السودان ودبلوماسياً خارج السودان.
لقد قلتُ لزملائي في نداء السودان إن تعاوننا قد أضاف للحركة السياسية السودانية رصيداً جديداً بتوازن قوى جديد. ولكن الهيكل الحالي لنداء السودان قد تداخل بين المسارين المدني والعسكري. لضمان استمرار نداء السودان بالصورة المنشودة ينبغي تعديل هياكل النداء بحيث يتم الفصل التام بين المسار المدني السلمي والمسار العسكري الذي يخص الجبهة الثورية وحدها. وفي اجتماع رؤساء فصائل نداء السودان اتفق على تكوين لجنة تقترح الهيكلة المطلوبة للفصل الواضح بين المسار المدني السلمي والمسار العسكري الذي يخص الجبهة الثورية وحدها.
المكون السياسي للجبهة الثورية يؤيد أهداف ووسائل نداء السودان المتفق عليها، ويؤيد الوسائل السياسية لتحقيقها، وتتحمل الجبهة المسؤولية عن أية أعمال عسكرية، وهي لا تخص نداء السودان. والحقيقة أنه منذ إعلان باريس في 8 أغسطس 2014م درجت الجبهة الثورية على تجدد تمديد وقف العدائيات تقديراً لمشروع الحل السياسي.
إننا نطالب الذين أيدوا النظام الحالي في مراحل ماضية واكتشفوا عيوب التجربة، وهم كثيرون، أن يوجهوا الدعوة لمؤتمر للقيام بنقد ذاتي للتجربة وإجراء مراجعة شاملة لإعادة اكتشاف الذات والاستعداد للمشاركة في المسار القومي الجامع. فالحق أحق أن يتبع. كما نرجو أن يثوب آخرون إلى رشدهم.
أما الذين ما زالت تربطهم مصالح ذاتية فنقول لهم: اعلموا أن المسرحية انتهت. وإصراركم على نفس المرشح مع تكاليف ذلك الباهظة على السودان دليل آخر على الإفلاس وعدم الحرص على المصلحة الوطنية.
تدعون لانتخابات عامة. إذا اتفق على قانونها، وعلى مفوضية قومية لإدارتها، وعلى كفالة الحريات، وعلى قومية مؤسسات الإعلام، وعلى ضبط حركة المال العام فلا يستغل حزبياً، فنحن أولى بخوضها. وإلا فخوضها سيكون مساهمة في حلقات تزوير إرادة الشعب.
وتدعون للمشاركة في كتابة دستور البلاد. إذا اتفق أن يكون عبر مؤتمر قومي دستوري جامع لا يعزل أحداً، وتحت رئاسة متفق عليها من قبل الجميع في الحكم والمعارضة، وفي مناخ كفالة الحريات، فهذا “عز الطلب”. ولكن أن تضع الدستور مفوضية تحت إمرة وقيادة الحزب الحاكم وليجيزها مجلس “بصمجي”، فلا يقبل ذلك عاقل أو وطني.
أما فيما يخص أهل السلطة، وكما حدث في ظروف الانتقال للحزب الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، ولجماعة فرانكو في أسبانيا، ولحزب بينوشي في تشيلي وغيرهم، فإننا نعرض عليكم غصن زيتون مقابل تسليم البلاد ورد الأمر لأهله؛ الشعب السوداني، وذلك باُسلوب ناعم عبر حوار باستحقاقاته.
عندما تحدثنا عن اُسلوب مساءلة آخر عبر نظام روما المؤسس للمحاكمة الجنائية وبموجب البند 16 منه، ومع تمسكنا بمبدأ عدم الإفلات من العقوبة، هب متعجلون للإدانة. البند 16 متاح لمجلس الأمن، ومجلس الأمن لا يمكنه أن يعتمده إلا بموجب موافقة ضحايا التجاوزات. وحتى قبل ذلك، فإن ضحايا التجاوزات قد يقبلون تجاوز المساءلة الجنائية مقابل مصلحة يرونها كما حدث سابقا:
- في 21 أكتوبر قرر ضحايا نظام 17 نوفمبر قبول العفو عن مساءلة النظام مقابل تنحي نظام عبود عن السلطة.
- وفي 1992 قررت قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا التخلي عن مساءلة جنائية لنظام الفصل العنصري وتحقيق المصالحة المطلوبة للسلام والإنصاف والاستقرار عبر مفوضية الحقيقة والمصالحة.
- وفي 2005 تجاوزت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة المرحوم د. جون قرنق عن أية مساءلة جنائية لنظام الإنقاذ الانقلابي، رغم ما ارتكب، مقابل ما تحقق لها من مكاسب في اتفاقية السلام.
نقول بوضوح: نحن مع المحكمة الجنائية الدولية وولايتها في إنهاء حصانات الحكام الذين يجرمون في حقوق شعوبهم. ونرفض طلب سفير كينيا للأمم المتحدة لإصدار فتوى من محكمة العدل الدولية لإعطاء حصانة لرؤساء الدول بصورة مطلقة. نفس الحصانة التي يعطيها الرؤساء المعتدين لموظفيهم المعتدين. ونقول: إن الحصانة تجافي العدالة وتعني الإفلات من العقوبة.
أحبابنا،
تشهد أفريقيا الْيَوْمَ تطورات إيجابية في اتجاه المصالحات، وفي اتجاه التخلي عن تعديلات الدساتير لمصالح ذاتية. السودان أولى بالمصالحات، ولكن لتكون له مصداقية في ذلك ينبغي أن يحقق ذلك في أوضاعه، حتى لا يقال كما قيل في دور النظام في مصالحة الإخوة الجنوبيين: هذا كمن يريد استخراج بسكويتة من الشاي ببسكويتة أخرى. وقديماً قيل:
يا أيها الرجل المعـــــــــــــــــــــــــلم غيــــــــــــــــره هــــــــلا لنفسك كان ذَا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيــــما يطيب به وأنت سقيم
ليصدق النظام في الخرطوم في نهج المصالحات فليصدق في مواقفه. فقد أرسل لنا وفداً بقيادة الفريق الهادي عبد الله في القاهرة أواخر رمضان الماضي، ووفداً آخر بعد عيد الفطر ممثلاً في شخص السيد فيصل حسن إبراهيم. كلا الوفدين اتفقا معنا على ضرورة إجراء حوار باستحقاقاته بموجب خريطة الطريق الموقع عليها، ملتزمين باتخاذ إجراءات تهيئة المناخ ولكن النظام سكت عن ذلك. (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا )[9].
أحبابنا في الله والوطن العزيز
في مرورنا على عواصم العالم نجد أرتالاً من شبابنا ضاقت بهم ظروف الوطن. الظروف التي دفعت كثيرين منهم داخل الوطن للغياب بالمخدرات والغياب بالارتماء في التطرّف ومحاربة المجتمع. إنهم جيل سرق النظام حاضرهم، فلنعمل بجد لنؤمن لهم مستقبلهم. وليقبل الناجحون وأسرهم من بناتنا وأبنائنا في امتحانات الشهادة السودانية تهانينا.
أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز،
تبادلوا التعافي والتصافي. أعفوا عنا صفحاً جميلاً، ونحن عنكم بإذن الله عافون. ومع بعد المسافات جغرافياً بيننا فإن المحبة تطوي المسافات:
وسنة الله في الأحباب أن لهم وجهاً يزيد وضوحاً كلما ابتعدا
ولنبتهل لرب العالمين: اللهم إن عفوك عن ذنوبنا وتجاوزك عن خطايانا وسترك على قبيح أعمالنا، أطمعنا أن نسألك ما لا نستوجبه مما قصرنا فيه. ندعوك آمنين ونسألك مستأنسين. فإنك أنت المحسن إلينا ونحن المسيئون إلى أنفسنا فيما بيننا وبينك. تتودد إلينا بنعمك ونتبغض إليك بالمعاصي ولكن الثقة بك حملتنا على الجراءة عليك فعد بفضلك وإحسانك علينا إنك أنت التواب الرحيم.
وثقتنا بالله: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)[10].
وثقتنا بالله: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)[11].
وثقتنا بالله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[12]
فابقوا في حفظ الله إلى أن يجمع الله شملنا قريباً:
ما بين غمضة عينٍ وانتباهتها يبدل الله من حالٍ إلى حال
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
الهوامش
[1] سورة آل عمران الآية رقم (84)
[2] رواه الشيخان
[3] سورة آل عمران الآية رقم (92)
[4] سورة الماعون الآيات من (1) إلى (3)
[5] سورة الحج الآية رقم (37)
[6] سورة المائدة الآية رقم (48)
[7] سورة البقرة الآية رقم (257)
[8] رواه البخاري وأحمد وأبو داؤد
[9] سورة مريم الآية رقم (98)
[10] سورة التوبة الآية رقم (105)
[11] سورة الحج الآية رقم (38)
[12] سورة هود الآية رقم (117)