أخواني وأخواتي
أبنائي وبناتي
السلام عليكم والرحمة، أما بعد-
يطيب لي أن أشارك في تقديم كتاب علم السياسة والأكاديميا للأخ بخاري عن قانون البحار.
أولاً: أتحدث عن المؤلف فالسياسي بلا معرفة علمية محدود، والعالم بلا إلمام سياسي مربوط، وفي الجمع بينهما فلاح كما تحكي سيرة أبرز عالم في تراثنا ابن خلدون وسيرة أبرز فيلسوف في تراثنا ابن رشد. جمع المؤلف بين هذين التأهيلين ينسبه لهذه السنة الحميدة.
ثانياً: كان العالم القديم عالم مغالبة تفرض فيه الإمبراطوريات سلطانها، حاديها:
لَنَا الدُّنْيَا وَمَنْ أَضْحَى عَلَيْهَا وَنَبْطِشُ حِينَ نَبْطِشُ قَادِرِينَا
وحتى في تاريخنا صنف فقهاء عالمين: دار سلام ودار حرب.
في العالم الحديث كل شيء مقنن في ظل ميثاق عالمي للإمم المتحدة.
المنكفئون منا ما زالوا على الفهم القديم كما قال محمد الفاسي: نحن نعيش في البلدان الغربية ونعمل أعمالاً دونية ولكنها دار حرب، الأموال والدماء فيها مستباحة. هؤلاء يروجون لأحاديث تجعل جهاد الطلب فريضة، ومقولة من لم يغز أو يحدث نفسه بالغزو فليمت إن شاء على غير ملة الإسلام، أو مقولة “بعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ”. بل قال أحدهم، علي العلواني، من أنكر أن الإسلام قد انتشر بالسيف كافر لأنه ينكر فضيلة الجهاد.
ولكن في الحقيقة فإن مقاصد الشريعة في هذه الأمور واضحة، فالقتال دفاعي (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواۚ) . والدين لا يفرض بالقوة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ) . بل المنصفون من المستشرقين كالسير توماس ارنولد وثقوا لحقيقة الانتشار السلمي للإسلام، ومقاصد الشريعة تسمح بإقامة علاقات مع الآخرين على أساس المعاهدة: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) .
المنكفئون الذي يرفضون إقامة علاقات مع الآخر الملي على أساس (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ، ومع الآخر الدولي على أساس المعاهدات وما تؤسس من قوانين إنما يعيشون خارج التاريخ، والأسوأ يعيشون خارج مقاصد الشريعة، ويؤسسون لديانة عدوانية دموية.
إن داعش، والشباب الصومالي، وبوكو حرام، مدرسة تغلغلت في نفوس كثيرين، ولا تحارب بالوسائل الأمنية وحدها، بل كثير من مقولات المستخفين بمقاصد الدين وممارسات الهيمنة الدولية والدول الاستبدادية إنما يتيحون لهم منابر تؤيدهم بالفتوى، وكما قال الشاعر العراقي:
القاتِلُ مَن أفتى بالقَتْلِ .. وَليسَ المُستفتي
دول تتبع سياسات تعلن رفضهم ولكن تتخذ مواقف مبررة لمنطقهم كما قال أحمد مطر:
أهلُ التَّخلُّفِ في بلادِ الضّادِ
يَستنكرونَ خِلافةَ البغدادي
فعَلامَ ينفرُ لاعِبٌ مِن لاعِبٍ
وكلاهُما عُضْوٌ بنَفسِ النّادي؟!
ثالثاً: كتاب قانون البحار جزء من ثقافة تقنين العلاقات الدولية، فالبحار تبلغ ثلاثة أرباع سطح الأرض، وتقنينها مهم لسلام البيئة الطبيعية، وللأمن والتعاون الدوليين، ولوسائل المواصلات بين الدول، وللتوافق القانوني حول ملكية واستثمار الثروات الضخمة التي تحتويها البحار في مياهها وفي قيعانها.
رابعاً: هذا الكتاب مدرسة تعرف مصطلحات قانون البحار، وتبين تطورات القوانين المتعلقة بالبحار، وتحدد ماهية المياه الإقليمية، والبحار المفتوحة، والمضايق والخلجان، والجزر البحرية، والأرخبيلات والجرف القارية، فالقانون يعرف هذه الموجودات ويبين حقوق وواجبات الدول فيها. هذه مهمة هذا الكتاب ونظائره.
خامساً: يتطرق الكتاب لحقوق وواجبات السودان بموجب قانون البحار لا سيما وللسودان جوار مقابلة مع المملكة العربية السعودية، وجوار ملاصقة مع جمهورية مصر و إريتريا، فللسودان حقوق وواجبات نحو هؤلاء الجيران، كما له حقوق وواجبات في أعالي البحار التي لنا فيها حقوق وعلينا واجبات، فهذه البحار هي كالفضاء الخارجي إرث مشترك للإنسانية.
لا تكفي مطالعة هذا الكتاب، بل يرجى عقد ورشة متخصصة لبث معارفه على نطاق واسع.
لقد اقترحت منذ أعوام تكوين مكتبة من مجموعة كتب في مجالات مختلفة، يكون الاطلاع عليها واجب وطني بعنوان: “مكتبة الاستنارة الوطنية لمحو الأمية المعرفية للعاملين في الحقل العام”، فكثير من هؤلاء يعتبرون السياسة مجرد طق حنك أو مجرد شعارات.
سادساً: أعود للمؤلف لأقول له لقد زدت من تعريف نفسك بكتبك على سنة من قال: تكلم لأراك، والكلام مرحلة تتبعها الكتابة كما قال الحكيم:
العِلمُ صَيدٌ والكِتابةُ قَيدُهُ قَيِّدْ صيودكَ بالحِبالِ الواثِقَة
فَمِن الحَماقَةِ أَنْ تَصيدَ غَزالَةً وتَفُكّها بَينَ الخَلائقِ طالِقةَ
حبذا أن يقبل سياسيون على المعارف، ويقبل أكاديميون على تناول قضايا السياسة، هكذا يكون استنساخ ابن خلدون وابن رشد.
بعض الذين بهرتهم الحضارة الغربية صاروا يقولون لا إستنارة ما لم نقم قطيعة معرفية بالتراث، نعم الحضارة الحديثة مصدر إستنارة هائلة ولكن في التراث درر معرفية غطى عليها تسلط الركود الفكري، والجمود الفقهي، والسلطان المستبد.
من ناحيتي من منطلق مستنير وجدت نظيراً لكل المعارف المستنيرة الحديثة في التراث وإن كان طغاة الفقهاء والحكام قد أنكروها.
إن قيمة الحرية التي حققها شعبنا الآن بثورته المباركة أنها تفتح آفاقاً جديدة، تأذن باكتشاف درر التراث لتعامل مستنير مع الوافد من الماضي، وتأذن بالتعامل المستنير مع الوافد من الخارج فتنال الحسنيين، لأن التعامل التقليدي مع الوافد من التراث انكفاء، والتعامل الامتثالي مع الوافد من الخارج استلاب.
أهنئ الكاتب على صدور كتابه، وأرجو أن يواصل نشر معارفه، وأحث زملاءنا في العمل العام حذو حذوه لتنوير الحلك، فهداية (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) تشمل الماديات والمعنويات والمعارف.
هذا وبالله التوفيق.
الصادق المهدي
26/10/2019م