بسم الله الرحمن الرحيم
فقه تقرير المصير
26/9/2017م
في هذا اليوم عزمت قيادة إقليم كردستان العراق إجراء استفتاء لتقرير المصير.
إن تظلم المجموعات الوطنية في الدول الوطنية جعل كثيراً منها يطالب بحق تقرير المصير. أقول:
مبدأ تقرير المصير ظهر في القرن التاسع عشر، ولكنه اشتهر في النقاط الأربع عشرة التي أعلنها الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون في عام 1918م بعد نهاية الحرب الأطلسية الأولى. وكان هدفه أن تنال الشعوب المحتلة حقها في تقرير المصير من الدول الإمبريالية المحتلة لها. وقد ورد في المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة الذي صدر في 1945م بعد الحرب الأطلسية الثانية.
هذا الحق صار جزءاً من النظام الدولي بموجب قرار الجمعية العمومية رقم (1514) لعام 1960م. إذ أعلنت الجمعية العمومية للأمم المتحدة تأييدها لتقرير المصير وسيلة لتصفية الإمبريالية بالاعتراف للشعوب المحتلة بحقها في تقرير مصيرها.
النظام الدولي الحديث قائم على اعتبار أن الدول الوطنية هي الوحدات المكونة له.
لا توجد دولة وطنية في عالم اليوم تخلو من التنوع الإثني، والثقافي، والديني. فإذا صار حق تقرير المصير متاحاً للمجموعات الوطنية المكونة لذلك التنوع؛ فإن نظام الدولة الوطنية سوف ينهار، وبالتالي تنهار الأمم المتحدة المكونة من مجموع الدول. أي أن حق تقرير المصير نُقل من كونه أداة لتصفية الإمبريالية إلى اداة لتقويض نظام الدولة القطرية القائم على المواطنة، وبالتالي للنظام الدولي الحديث بأكمله.
من المعلوم أن بعض نظم الحكم الوطنية مارست على شعوبها قهراً وإقصاءً أشبه ما يكون بالاحتلال الداخلي. هؤلاء الطغاة مارسوا على شعوبهم سياسات من القهر والظلم مماثلة لسياسات الاحتلال الأجنبي.
هذا النهج الظالم هو الدافع اليوم لمناداة المظلومين بحق تقرير المصير. قال عمانويل كانط، أهم فلاسفة الغرب: إذا اردت أن تعرف هل الأمر حق أم باطل؛ تأمل ماذا سيكون الحال إذا جرى تطبيق عام له؟ فإذا كانت نتيجة ذلك التعميم النظري للأمر حسنة، فالأمر حسن. وإن كانت النتيجة سيئة فالأمر سيّء.
إذا طبق مبدأ تقرير المصير في الدولة الوطنية كعلاج أول للفشل في إدارة التنوع فيها؛ فإن النتيجة ستكون حتماً سيئة.
لا أحد ينكر أن الشعب الكردي حيثما وجد قد واجه مظالم، أهمها عدم الاعتراف بهويته الثقافية، وعدم المساواة في المواطنة ما أعطى مطلب تقرير المصير رواجاً شعبياً.
ينبغي الاعتراف بأن الأكراد، بل إن كثيراً من المجموعات الوطنية في إقليم كردستان قد عانت من إنكار هويتها الثقافية ومن انعدام المساواة. ولكن ينبغيالانتباه في ذات الوقت بأن الإصرار على الحل بإجراء تقرير المصير، والتطلع لتكوين كيان مستقل، سوف تكون له نتائج سيئة في العراق وفي ثلاث دول مجاورة في تركيا وإيران وسوريا. وكما قال العالم العز بن عبد السلام: كل أمرٍ يحقق عكس مقاصده باطل.
إن الإنصاف المشروع الذي تستحقه المجموعات الوطنية لحمة التنوع الإثني والثقافي والديني والاجتماعي ممكن، بل واجب في ظل الدولة الوطنية بلا حاجة لتقرير المصير الذي إذا صار الروشتة الموصوفة لمراعاة وحدات التنوع؛ تشظت الدول وصارت مرجعيات الانتماء مبنية فقط على هذه الوحدات العشائرية أو الطائفية.
عندما قامت إسرائيل كانت نظرة قادتها أوسع من الانتماء الملي. ولكن بسبب تمدد نفوذ اليمين الديني صار المطلب الغالب هو الحرص على أنها دولة يهودية. ما يعني حتما تجريد غير اليهود من مسلمين ومسيحيين من حقوق المواطنة. فلا يبقى أمامهم إلا الطرد، أو الإقامة في دولة فصل عنصري (أبارتايد).
هذا النهج الرجعي – بجانب سياسة “فرق تسد”- هو الذي جعل إسرائيل مؤيدة لتقسيم دول المنطقة على أسس إثنية وثقافية وطائفية. مما جعلهم ينفردون بتأييد تقرير المصير لإقليم كردستان.
ينبغي حصر حق تقرير المصير في حالات تصفية الاحتلال الأجنبي. ولكيلا يماثل الاستبداد الداخلي الاحتلال الأجنبي؛ يجب أن تكفل لجميع المجموعات الوطنية حقوق المساواة في المواطنة، والعيش في ظل نظم حكم تكفل المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون كأساس سياسي تصحبه ديمقراطية اجتماعية تكفل العدالة الاجتماعية.
ومع رفض تقرير المصير وسيلة للإنصاف من المظالم؛ فإن لهذا الرفض استحقاقات محددة يتوجب أن تتوافر في شكل حكم واقتصاد الدولة الوطنية، منعاً للخيار البغيض:
يقْضَى عَلَى المَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ حَتَّى يَرَى حَسَناً مَا لَيْسَ بِالحَسَن
النصيحة المخلصة للحزب الديمقراطي الكردستاني وزعيمه القائد مسعود برزاني؛ وقد صوت الأكراد للاستقلال: اعتبار ذلك ورقة لتحصين النصيب العادل في السلطة والثروة، واحترام الثقافة الكردية، وحماية اللامركزية في العراق الموحد.
والله ولي التوفيق.
الصادق المهدي
آخر رئيس وزراء سوداني منتخب
رئيس حزب الأمة القومي، وإمام الأنصار
رئيس المنتدى العالمي للوسطية، الأردن