أقامت دائرة الاعلام بحزب الامة القومي جلسة حوارية حول العلاقة بين الدين والدولة يوم الاربعاء 29 مارس 2017م، قدمت خلالها الاستاذة إيمان الخواض القيادية بالحزب شرحاً وافياً حول حقيقة ما دار من نقاشات في ملتقي نيروبي 23-25 فبراير 2017م، وتطرقت الي الملامح الاساسية من ورقة العمل التي قدمتها في الملتقي عن تشريعات الاسرة وجدل الدين والدولة، كما إستعرضت الجلسة أطروحة الامام الصادق المهدي ” إشكالية الدولة والحكم رؤية تاريخية تأصيلية” والتي قدمها مؤخراً بالاردن في 12 مارس الجاري. وقد هدفت الجلسة الحوارية الي مناقشة أطروحة الحبيب الامام رئيس الحزب ومقاربتها بالرؤية المتجددة للحزب وتحديد مسارات البناء والتفاصيل، خاصة وأن حزب الامة القومي قد إبتدر “مشروع تطوير رؤي وبرنامج الحزب في قضايا السلام والحوكمة” بسمنار تعريفي وتحضيري في التاسع من فبراير 2017م كأحد مشاريع التأسيس الرابع للحزب في مؤتمره العام، وهدفت الجلسة أيضاً الي مدارسة الملتقي السوداني حول علاقة الدين بالدولة من منطلقين الاول أهمية مثل هذه الملتقيات في حد ذاتها من حيث المشاركين والمخرج وتأثيرها علي مجمل الحياة العامة في السودان، الثاني أن حزب الامة القومي علي الدوام يعمل علي تقييم كل مبادرة أو مشروع أو رؤية بعيداً عن المزايدة والحساسية ورفض أي فعل لم يكن جزءً منه، وإنما ينطلق من ميزان القومية والوطنية.
لم يكن تناول هذا الموضوع ترف فكري لا طائل من ورائه، ولا هروباً من تعقيدات الواقع السياسي الذي يطّلب تبيان المواقف، ولم يكن ردة فعل للحراك الذي أحدثه ملتقي نيروبي وإن كان ليس بعيداً عنه، وإنما في إطار البحث القديم المتجدد عن توافق علي مشترك معرفي وسياسي لا يعزل أحد ولا يهيمن عليه أحد. وضمن إستراتيجية متكاملة أقرها الحزب عقب عودة رئيسه في 26 يناير 2017م، والتي تقوم علي ثلاثة محاور (سياسي، تنظيمي، فكري) أولها إعلان الموقف السياسي المتمثل في “الهجمة بالقوة الناعمة” ذات الثلاث ركايز هي الحريات العامة، وتحجيم جهاز الامن، والالتزام بخارطة الطريق الافريقية كمدخل لحوار مدفوع الاستحقاقات، ووسائلها تجميع قوي المعارضة علي موقف مشترك، وإقناع المجتمع الدولي برجاحة هذا الموقف، وإقناع الشعب السودان بصدقية الطرح في لقاءات جماهيرية في كل ولايات السودان، والضغط علي النظام للاستجابة لمطالب الشعب المشروعة في نظام جديد، ثانيها إعلان الموقف التنظيمي المتعلق بالتأسيس الرابع والتحضير للمؤتمر العام وإستكمال عملية التحديث والتطوير في أكبر وأعرق الاحزاب السودانية، وأخيراً إعلان الموقف الفكري الذي يبني علي إيجاد مقاربات معرفية في قضايا الهوية والحوكمة وفك الاشتباك العلماني الديني وتقديم مخرج فكري يتمثل في بناء منظومة توافقية علي الحد الادني، وذلك لقناعة راسخة بأن العلاقة بين الدين والدولة ما زالت تمثل إشكالية كبري تستدعي مزيداً من البحث والنظر كونها ما زالت تمثل أحدي أسباب الإضطراب وعدم الاستقرار وتأزمات الواقع.
فيما يختص بالملتقي قدمت الاستاذة إيمان الخواض سرد جيد، حيث إستعرضت أهداف ومحاور ملتقي نيروبي والاوراق التي قدمت وملامح البيان الختامي (دور الدين في المجال العام، والمراجعات، التعدد والتنوع، الالتزام بالمواثيق الدولية، المواطنة، العدل، مناشدة وقف الحرب، المراة، مواصلة المجهود والبناء عليه). وأبدت ملاحظاتها حول الملتقي علي ضوء المشاهدات والتداعيات، ومن أهمها أنها لم تلاحظ من خلال المناقشات حالة الإستقطاب الإسلامي العلماني أو التعقيد السائد في كثير من الدول في المنطقة وإنما لاحظت رفض إستغلال الدين كأداة للاستبداد ونقد تجربة الاسلاميين في الحكم بإعتبارها لا تعبر عن ألاسلام ومبادئه، ولاحظت أيضاً التناول الاعتزاري الفاقد للجراءة المطلوبة في مثل هذه القضايا، وعددت الانتقادات التي وجهت الي الملتقي خاصة غياب سياسيين لديهم تأثير إجتماعي كبير، وكثافة مشاركة الاسلاميين في الملتقي مقارنة بقلة مشاركة من يعبرون عن التيار الوسطي (د. ابراهيم الامين، أ. إيمان الخواض، أ. بابكر فيصل) من 42 مشارك، وتقاصر مخرجات الملتقي عن الوثائق والمرجعيات السابقة، وعدم الاهتمام الكافي بقضية المراة وغيرها. وتناولت تداعيات الحدث والكتابات المتبادلة والسِجالية بين بعض المشاركين في الملتقي والمجموعة السودانية للديمقراطية أولاً علي خلفية العلاقات السابقة والعمل علي ذات القضية. وقد سبق أن أعلنت قوي نداء السودان علي عزمها مناقشة القضية بكل أبعادها في ورشة عمل، كما أن المجموعة السودانية للديمقراطية أولاً تعمل على الاعداد الي ملتقي مماثل بغرض تجسير العلاقة بين الاسلاميين والعلمانيين حول قضية الدين والدولة.
وتطرقت إيمان الخواض الي تراجع كثير من المثقفين في نظرتهم النمطيةStereotyping الي حزب الامة القومي التي مرت بفترات أزمة كرس لها بعض المثقفين في محاولات للنيل منه وتقزيمه في الساحة السودانية وتحميله إخفاقات التجارب الديمقراطية كأن الحزب حكم منفرداً، ومع هذا التراجع الحميد الا أنه مازال هناك تعمد في تجاوز إجتهادات الامام الصادق المهدي في مجال الفكر والسياسة وتجربته النظرية والعملية في عملية الفصل المؤسسي بين السياسي والدعوي (حزب الامة القومي وهيئة شئون الانصار)، الامر الذي أرجعه الحبيب عروة الصادق الكادر الطلابي بالحزب الي أن هناك قاعدة سائدة مفادها (بأنك أذا اردت أن تصبح مثقفاً عليك تبخيس إنتاج وإجتهاد الامام الصادق المهدي والتطاول علي حزب الامة القومي). والذي لا جدال فيه أن للامام الصادق المهدي مرافعات في هذه القضية ليس إبتداءً بمساهمته في مؤتمر “الاسلاميون والعلمانيون نحو رؤية توافقية لإجتياز مرحلة الانتقال للديمقراطية” في يناير 2013م وليس إنتهاءً بمؤتمر “المسلمون والعالم من المأزق الي المخرج” مارس 2017م، ناهيك عن مخاطباته ومقالاته الكثيرة جداً والتي ترسخ بصورة أساسية الي مشروع توافقي كسبي كمخرج من الاشتباكات والثنائيات المتعارضة، وينطلق مشروعه هذا من منصة تأسيسية وسطية تحفظ التوازن لصالح تسوية تاريخية بديلة عن حالة التجازب في إطار تكاملي، تفادياً لتكرار التجارب الجدلية في ظل إنعدام الثقة والمصداقية (كل يطرح مشروع توافق من منصته بغرض جزب لها الطرف الاخر)، وأحياناً بصورة إستقطابية لا تخلو من المزايدة السياسية، وربما هذا ما يبرر الإستشهاد بكتابات الاستاذ محمود محمد طه كرمزية للطرح العلماني بعد تراجع الفكر الماركسي والعروبي، وبكتابات د. حسن الترابي كرمزية للطرح الاخواني، وعدم الالتفات وتجاهل الاستشهاد بكتابات الامام الصادق المهدي كرمزية للطرح الوسطي، إستدعاء كتابات د. الترابي والاستاذ محمود أمر مطلوب ولكن من باب المصداقية الاكاديمية النظر لكل المحددات وتحليل الخطاب الديني العلماني دون تجاهل التيار الوسطي العريض والتكريس للجدل التقابلي، خلاصة الامر أننا أمام منصتين للتعامل مع العلاقة بين الدين والدولة تكاملية وجدلية.
نقطة ليس أقل أهمية تلك التي تتعلق بالمراجعات الفكرية لا سيما التي أقدم عليها كثير من الاسلاميين وبعض اليساريين والتي تنطلق أغلبها من مواقف سياسية مرتبطة بالقرب والبعد من مراكز السلطة أو التأثير الحزبي وبالتالي لا تلامس العمق وغير مصحوبة بإعترافات بحجم الجرم في حق الشعب كـ”قيدومة” لحوارات مثمرة ومنتجة وفتح الطريق أمام عدالة إنتقالية، وليس كـ”مخرج” من أزمة حزبية راهنة، هذا ما أشار له بوضوح الحبيب الطيب قجة المحاضر بجامعة غرب كردفان في مداخلته.
كذلك ركزت إيمان الخواض في الجلسة علي قضية المراة وسط زخم الجدل بين الدين والدولة، وبيّنت الظلم الذي وقع عليها نتيجة سن تشريعات من نصوص دينية منكفئة ومجحفة للمراة ووضعها الانساني، وغياب المرجعية المتجددة التي تراعي الالتزام الديني وحقوق الانسان، وتناولت بالشرح والتفصيل ماجاء في قانون الاحوال الشخصية من إنتهاكات للمراة، وطالبت بقانون مدني عصري ديمقراطي للاسرة يسمو بكرامة المراة ويحافظ علي حقوقها. الامر الذي جعل الاستاذ الفاضل حمد دياب رئيس لجنة الحكم والادارة بالمكتب السياسي للحزب يدعو في مداخلته الي تبني الحزب لملتقي حول قضايا المراة يضم كل التيارات لحساسيتها وعقلانيتها.
وتمحورت أكثر مناقشات المشاركين في الجلسة الحوارية حول ورقة الامام الصادق المهدي ” إشكالية الدولة والحكم رؤية تاريخية تأصيلية” التي قدمت بعمان ضمن فعاليات المؤتمر التداولي الذي نظمه المنتدي العالمي للوسطية خلال الفترة من 11-12 مارس 2017م والتي أسس فيها الي ما سماه أنسنة تاريخ الامة الاسلامية، وركزت الاطروحة علي التخلص من تقديس النقلي وطرد العقلي وإعادة الحيوية الي الاجتهاد في فهم نصوص الوحي والالمام بالواقع التزاوج بينهما، وقد حددت 12 خطوة للتصدي لإشكالية الدولة والحكم يمكن إجمالها في (الصحوة الفكرية التي تقرأ التاريخ بصورة غير أسطورية، بشرية الخلافة، ومهمة تطبيق الشريعة التي تراعي المقاصد والمستجدات، قسوة النظم الوضعية ودورها في إبراز فكرة الحاكمية وتغذيتها، الاسلام ليس فيه نظام معين للحكم، العدالة الاجتماعية، التصدي للفتنة الطائفية، فك الاشتباك العلماني الديني وفشل محاولات الغاء الاخر، الفهم العدواني للولاء والبراء، علاقات الاديان، حوار الحضارات، مراجعة النظام الدولي الحالي بما يحفظ التوازن والعدالة)، ولعل أهم هذه المناقشات مداخلة م. ادم حارن كجام رئيس دائرة الدراسات والبحوث بالحزب والتي أكد فيها علي سلامة المنهج التطبيقي والتحليلي الذي وضع أساسه الامام الصادق المهدي القائم علي التفكيك والتركيب، وأن أطروحة الامام الاخيرة إنطلقت من القراءة التاريخية والتأصيلية وبالضرورة تحتاج تطوير القوالب الاخري من القراءة حتي تكتمل الرؤية، وشّدد كجام علي أهمية تجميع كل رؤي الحزب حول المسالة، لان للحزب إنتاج معرفي كثيف في هذه المسألة ومن ثم البحث عن ما يستوجب تطويره وتحديثه وهذا ما جاء أيضاً في مداخلة يوسف الصادق الكادر الشبابي بالحزب، ووصي كجام بضرورة تطوير وإعادة النظر في عملية عرض أفكار ومنتجات الحزب إعلامياً وسياسياً، وإتفق معه في ذلك م. عبد الرحمن علي عبيد رئيس دائرة التنظيم بالحزب د. إخلاص خليفة الاعلامية المعروفة حول ضرورة البحث عن قوالب واليات أكثر فاعلية لنشر فكر وطرح الحزب في ظل التعتيم الاعلامي وأحتكاره. وإعتبر مهند عرابي الكادر الشبابي والناشط الحقوقي الذي أدار الجلسة الحوارية بأن أطروحات الامام الصادق المهدي دائماً تمثل طريقاً ثالثاً يستمد موضوعيته وواقعيته من النظرة الكلية والمحايدة وبالتالي تقدم حلولاً ناجعة في كثير من الملفات، وأن عملية البناء عليها وصياغة رؤية الحزب علي ضوئها تحتاج لمزيد من هذه الجلسات الحوارية، وأضاف أننا أمام تحدي بناء منظومة فكرية سياسية تستوعب التعدد والتنوع في السودان، وأن الرهان علي رؤية حزب الامة القومي القائمة علي النهج القومي ورفض الحلول الجزئية الثنائية.
ولو تأملنا أطروحة الامام نلاحظ أربعة مداخل جديدة للعلاقة بين الدين والدولة هي:
المدخل الاول: إختيار العنوان (إشكالية الدولة والحكم) لم يقل الدين والدولة أو الحكم، مما يدلل علي إستيعاب منهج الامام لديناميكية المفاهيم، حيث لا ينظر الامام الي الدين كمقابل ثنائي وجدلي للدولة أو الحكم، وينظر لها في إطار تكاملي (جزء من كل) خاصة عندما يتحدث عن رؤية تاريخية فالدولة لا تقابل الدين بل تعد جزء من الدين الذي يمثل منهج حياة والحكم يمثل سلطة، كما أن الاشكال دوماً في الدولة ونظام الحكم وأن المرجعية الاسلامية المتجددة لا تعتبر الاشكال في الدين وإنما في التجارب الانسانية وفهم البشر للدين، وأساس هذه الديناميكية هو تفكيك الدولة التي تتكون من حكومة (قطاع عام) وقطاع خاص ومجتمع، وتفكيك مكونات الدين كمنهج وسلوك ومقاصد ومبادئ وليس كثوابت عقدية كالتوحيد والنبوة والمعاد والاركان الخمسة.
المدخل الثاني: التناول التاريخي التأصيلي للإشكالية، وهذا المدخل مرتبط بشكل أساسي بالمدخل الاول والذي يرجع الي تقييم إخفاق أنظمة الحكم التي تعاقبت في إدارة الدولة لأسباب تاريخية (بناء دولة مستبدة لا علاقة لها بالدين)، كما أن الفهم السائد للدين وقتها له تجلياته الاجتماعية والتاريخية التي بلورت هويات اجتماعية وسياسية متعددة في التجربة العربية الاسلامية.
المدخل الثالث: التشديد علي أنسنة تاريخ أمتنا واعادة قراءته ونزع عنه أي قدسية هو المدخل الصحيح لفتح باب تطبيق الشريعة وفق إجتهاد واقعي وترسيخ دور الدين في الحياة العامة، بعيداً من الاساطير والقدسيات والتفسير السلطوي للدين.
المدخل الرابع: أن الاستقطاب المذهبي والديني في الاساس سياسي ناجم عن عدم قبول الاخر والاقصاء والتعصب والاستبداد والتمكين تحت مبررات دينية (الحاكمية وولاية الفقيه والجهاد) ، لذلك تناولت الاطروحة محددات سياسية أساس التصدي للاشكالية.
ختاماً: هناك تحول لا تنكره العين خاصة في خطاب الاسلاميين الذي أصبح الاكثر إنفتاحاً علي قيم الديمقراطية والحوكمة والاستعداد لتقديم المزيد من المراجعات وإدارة حوار فكري وسياسي يسهم في بناء الدولة المدنية، بالمقابل فإن خطاب العلمانيين أصبح أكثر واقعية بقبوله الدين كعنصر أساسي في الحياة العامة والعدول عن طرده، بالاضافة لإعادة النظر في إنكار الغيب والاصولية المضادة، وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام المشروع التوفيقي الذي أصبح يدعو له طيف عريض من المفكرين والسياسيين، فهل تتسع آفاق الحوار لتقديم نموزج سوداني في البناء الوطني وتحويل الازمة الي فرصة؟ أم يستمر الجدل العقيم والمزايدات التي تضيع الفرص وتأزم الوضع أكثر من ذلك؟؟..
رصد/ محمد الامين عبد النبي