الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على الحبيب محمد وآله وصحبه مع التسليم، أما بعد-
أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز
بمناسبة الاحتفال بذكرى مولد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أحدثكم عن عدد من موضوعات هي:
1) مبررات الاحتفال بمولده.
2) لماذا صارت سيرته دليلاً على صحة رسالته؟
3) ما الذي جعل رسالته أكثر نظم الاعتقاد معقولية؟
4) ما هي حجية صلاحية الرسالة لتجاوز قومه وزمانه؟
5) ما هو محمول العصر الحديث وموقف الإسلام منه؟
6) ما هي التقدمية المؤصلة التي ندعو لها؟
7) الفكرويات المعاصرة، ما هو الموقف منها؟ (العلمانية- اللبرالية- الديمقراطية- الشيوعية- الفكر القومي العربي- الفكر الأفريقاني- الفكر الجمهوري- الفكر الشيعي- الدعوة المهدية).
8) ماهية الثورة السودانية ومراحلها الثلاث، وموقفنا منها. لا سيما موضوعات حاسمة هي: السلام، الاقتصاد، النظام البائد، العلاقات الخارجية.
أحبابي
أبدأ بإبداء مشاعر إيمانية وعاطفية نحو صاحب المولد عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ).
وقال أحمد شوقي:
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئت بحكيم ليس منصرم
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العقد والقدم
ثم أجيب على التساؤلات العشرة:
أولاً: ما هي مبررات الاحتفال بمولده؟
لم يكن هذا الاحتفال معروفاً لدى السلف، ولكن الاحتفاء بحدث مهم في التاريخ سنة بشرية معروفة. فقد قيل إن صيام يوم عاشوراء هو ذكرى ميلاد موسى عليه السلام. والمسيحيون يحتلفون بميلاد عيسى عليه السلام ، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم أجاب عندما سئل لماذا يصوم يوم الاثنين؟ فَقَالَ : ( فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ) .
والبشر في كل الثقافات يحتفلون بذكرى الأحداث المهمة في تاريخهم، والبشرية اليوم حددت أياماً مهمة كيوم الطفل، ويوم المرأة، ويوم أصحاب الاحتياجات الخاصة، وهلم جراً.
والاحتفال بذكرى ميلاده يدخل في باب ( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ )، فإذا دخلت في الاحتفال تجاوزات فهي مما تدخل في باب (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ).
أيها المتسائل تعال شاهد احتفال هيئة شؤون الأنصار بالمولد، ستجد الطيبات المقنعة إن شاء الله.
ثانياً: لماذا صارت سيرته دليلاً على صحة رسالته؟
– كانت سيرة حياته في وضح التاريخ، فلا مجال للدس فيها، وهذا لا ينطبق على سيرة الأنبياء الآخرين.
– صفاته قبل الرسالة كانت معروفة، فقد كان لا يقرأ ولا يكتب مما يدل على أن المعارف التي أتى بها أتت إليه وحياً.
– سيرته جمعت بين عطاء روحي وهدى اجتماعي، ما صيره نبياً ورجل دولة، وهو جمع فريد.
– انفرد بين المرسلين بأن القرآن سجل في حياته وبإشرافه المباشر، وأن نصه صار محفوظاً.
– دعوات سواه اعتمدت على المعجزات، ولكن دعوته قامت على حجية الإقناع.
– صفات الرسل اتخذت معالم غير بشرية، لكنه كان بشراً مثلنا، مما يجعل سيرته قدوة للبشرية.
– حجة رسالته صالحة لتجاوز خطابها قومه وتجاوزها لزمانه.
ثالثاً: ما الذي جعل رسالته أكثر نظم الاعتقاد معقولية؟
إنها جعلت موقف الملل الكتابية فيما يتعلق برسالة الغيب واحدة تقوم على التوحيد، والنبوة، والمعاد، ومكارم الأخلاق.
وأنها حررت عبارة إسلام من الطائفية، كما قال: “الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ” .
وحررت كرامة الإنسان من اعتقاده: ” كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ” ، والنص القرآني (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) .
واعترفت الرسالة بمشروعية الاختلاف: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ).
واعترفت بواقع التنوع الثقافي البشري: (مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) .
ورسالته تعتبر نواميس الطبيعة من قدر الله، وأنها تقوم على حق: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) ، فالطبيعة هي كتاب الله المنشور.
وأحكام الشريعة قال عنها بحق الإمام الشاطبي: كل ما حكم به الشرع حكم به العقل. حقيقة خلدها البصيري بقوله:
لم يمتحنا بما تعي العقول به حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم
رابعاً: ما هي حجة صلاحية الرسالة لتجاوز قومه وزمانه؟
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) .
فالبشرية كلها مكرمة، ولا شرط عرقي كما في اليهودية، ولا شرط حدثي كما في المسيحية واشتراط الإيمان بالفداء للنجاة، وفيما يتعلق بالغيبيات، فملة التنزيل واحدة، وفيما يتعلق بالمعاملات فضمن حقوق للإنسان تقوم على خمسة مباديء هي: الحرية، والعدالة، والمساواة، والسلام؛ أوضحت مرابطها في كتابي “الإنسان بنيان الله” فإن المعاملات تقوم على أحكام متحركة على أساس تغيير الأحكام بتغيير الزمان والمكان والحال.
خامساً: ما هو محمول العصر الحديث وموقف الإسلام منه؟
محمول العصر الحديث يقوم على منظومة حقوق الإنسان، وقد بينت في ورقة قدمتها أمام سمنار نظمه مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في جنيف عام 1998م ، التطابق بين مباديء حقوق الإنسان العالمية وحقوق الإنسان في الإسلام.
ونظام ولاية الأمر المثلى في العصر الحديث تقوم على رباعية: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون. وهي ذاتها التي قال بها الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه لدى بيعته: “وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم ، فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني ، الصِدْقُ أمانةٌ والكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ”.
ولكن النظام العصري الرأسمالي مؤسس على ظلم طبقي يأباه الإسلام الذي يقوم اقتصادياً على أساس يحث على التعمير والاستثمار، ويقبل الملكية الخاصة، ولكنه يضبط توزيع الإنتاج من ناحية عدالية.
أستاذان من جامعة واشنطن في أمريكا اختارا 113 مقياساً في الأخلاق والمعاملات، وسمياها المقياس الإسلامي، ثم طبقا هذا المقياس على دول العالم، فوجدا أن دولاً أوربية عادلة في الرعاية الاجتماعية هي الأقرب للإسلام، بينما الدول المسلمة اعتقاداً بعيدة عن هذه المقاييس.
وأستاذ الأديان المقارنة، روبرت شدنقر، تساءل هل المسيح مسلم؟ وأجاب في كتابه: نعم.
العصر الحديث يكفل حرية البحث العلمي والتطور التكتلوجي، وهما مكفولان في مباديء الإسلام، وقد بينت هذه الحقائق في كتابي “نحو مرجعية إسلامية متجددة”.
والإسلام يدعو لنظام عالمي لا يقوم شرطاً على وحدة الملة، بل على أساس المعاهدة: (لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) . والتعاهد في الإسلام يتجاوز الانتماء لدين واحد كما جاء في الأثر: ”ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء: من عاهدته وفِّ بعهده مسلمًا كان أو كافراً، ، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها، مسلمًا كان أو كافرًا، ومن ائتمنك على أمانة فأدِّها إليه مسلماً كان أو كافراً”.
سادساً: ما هي التقدمية المؤصلة التي ندعو لها؟
إنها توجه فكري يوفق بين حقائق الوحي في الغيبيات التي لا تدركها العقول التي تناولها شيخ فلاسفة الغرب، عمانويل كانط في كتابه الحتميات العملية. قال تعالى: (الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ). ويقوم على حقائق عالم الشهادة كما تسفر عنها نواميس الطبيعة المشاهدة في الوجود الطبيعي والإنساني والاجتماعي.
وتوجه سياسي ينادي بحقوق الإنسان المنطلقة من أصولها الخمسة.
وبولاية الأمر التي تكفل المباديء الأربعة: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون.
وبنظام اقتصادي يجمع بين محاسن الرأسمالية في الملكية الفردية والحرية والتنافس، ومحاسن الاشتراكية في كفالة الرعاية الاجتماعية وعدالة توزيع ثمار الاستثمار والإنتاج.
وبالاعتراف بالتعدد الديني والتنوع الثقافي والمساواة في المواطنة.
وباحترام الرابطة الوطنية دون تعصب، ما يسمح بإقامة تكتلات دولية على أسس مشتركة، ونظام عالمي يقوم على السلام والتعاون الدولي والعدالة.
هذه المفاهيم تتوافر لها حواضن إسلامية تمنحها أساساً أخلاقياً وجزاء أخروياً.
ومن مانفستو التقدمية المؤصلة إطلاق نداءات العصر الثلاثة:
– نداء المهتدين لجمع الصف الإسلامي، وهو الآن يدعو لتعايش سني شيعي، ولوقف حرب اليمن والحروب الأخرى، ولصلح في مجلس التعاون الخليجي، ولمعاهدة أمن وتعايش وعدم التدخل في الشؤون الداخلية عربية، تركية، إيرانية.
– ونداء الإيمانيين للتعايش بين العقائد الدينية.
– ونداء توافق الحضارات الإنسانية.
سابعاً: ما هي الفكرويات المعاصرة في محيطنا وما موقف التقدمية المؤصلة منها؟
إن أهمها عشرة هي: العلمانية- اللبرالية، الديمقراطية، الشيوعية، الجمهورية، القومية العربية، والأفريقانية، والشيعية، والمهدية:
العلمانية: العلمانية مشتقة بغير قياس من العالم، وهي تعبير حديث عن الدهرية، أي أن الحقائق المعتمدة هي تلك التي تنسب للعالم المكاني الزماني، وتعتبر أية مسائل متعلقة بالغيب ساقطة. إن للعلمانية دوراً مهماً في حقائق عالم الشهادة، وهذا ما تطوله مدركات عقولنا وتجاربنا. ولكن في حكمها على الغيب فإنها جائرة على ما لا تطوله مدركاتها.
العلمانية فتحت باباً واسعاً للتعصب بحيث كانت أفظع النظم بطشاً في التاريخ نظماً علمانية كالنازية والستالينية. إن العلمانية المعتدلة التي لا تحكم على الغيبيات مقبولة كمنظومة فكرية معتدلة. هذا ما قال به بيتر بيرقر وتشارلس تيلور، من أساطين الفكر العلماني.
اللبرالية: تقوم على كفالة حرية الأفراد الشخصية، والسياسية، والاقتصادية، ولكن هنالك عوامل مثل تعدي حرية الفرد على حرية غيره، وتطاول حرية الفرد على مصالح المجتمع، لذلك فإن اللبرالية المطلقة باطلة، ولكن اللبرالية المرشدة حميدة.
الديمقراطية: الديمقراطية هي كالشورى ولكن الشورى مقيدة بأحكام الشرع. لا توجد ديمقراطية غير مقيدة بدساتير تتطلب احترام مباديء محددة لا يجوز للأغلبية أن تتعداها. هذا معناه أن الديمقراطية وهي ولاية تقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون، نظام يليق بكرامة الإنسان.
النظام الديمقراطي لا يمنع أية تطلعات ذات مرجعية عقدية أو فكرية ما دام أصحابها يلتزمون بحقوق الإنسان للكافة، وبالمساواة في المواطنة، وبقرار الأغلبية عبر انتخابات حرة.
الشيوعية: الشيوعية في الأصل صرخة قوية ضد مظالم النظام الرأسمالي بلورها كارل ماركسس وزميله فردريك انجلز. إن ما قالت به من رفض مظالم النظام الرأسمالي في مراحله الأولى، والظلم الطبقي الذي حاق بالطبقة العاملة تحليل صحيح لواقع أدركه النظام الرأسمالي وعدل من مظالمه.
ومع أن الشيوعية طالبت بسيطرة الطبقة العاملة فإنها تحولت على يد ستالين لسيطرة حزبية دكتاتورية.
على يد لينين ثم ستالين صارت الماركسية أيديولوجية قامت بتحديث وتنمية روسيا بوسائل قهرية، وفي النهاية تجاوزها الزمن بحيث صارت الشيوعية الآن في الصين وفي فيتنام، ولدى الأحزاب الأوربية معدلة تماماً، كما أن الرأسمالية نفسها عدلت من نظامها.
لا زالت الماركسية كمنهاج تحليل يبرز دور العامل المادي والصراع الطبقي المرتبط به ذا قيمة فلسفية واجتماعية. ولكن الأيديولوجية المرتبطة بها سقطت.
الحزب الشيوعي في السودان حزب سلفية شيوعية متخلف عن الأحزاب الشيوعية في العالم، ويتعامل مع المجتمع السوداني بردود فعل لا بفعل، وبشعارات خاوية، بل في الفترة التي سيطر فيها على الحكم، في الفترة الأولى من نظام المرحوم جعفر نميري، فإنه كان عوناً للدكتاتورية العمياء، ومناصراً للبطش الدموي باسم العنف الثوري. كنت في أثناء السجن مع زملاء من الحزب الشيوعي قد اقترحت لهم ضرورة إجراء مراجعات أساسية من الدين للاعتراف بأنه ليس ظهيراً دائماً لقهر الفقراء، كما في الإسلام، وفي لاهوت التحرير المسيحي؛ ومراجعات من النظام الديمقراطي فإنه ليس دائماً أداة للطبقة الرأسمالية؛ ومراجعات للموقف من الرأسمالية نفسها، ومن الوطنية على ضوء المستجدات. ولكن القادة من الشيوعيين رفضوا النصح، وإن اعتذر لي المرحوم محمد إبراهيم نقد بعد ذلك بعامين، ولكن ظل الأمر على ما هو عليه. اجتمع كوادر للحزب في لندن في تسعينات القرن الماضي وقرروا إجراء مراجعات اساسية، ولكن الحرس القديم رفضها.
الحزب الجمهوري: المسلمون يعتقدون أن النسخ في القرآن هو أن اللاحق ينسخ السابق. وهم كذلك على اعتقاد أن الرسالة الإسلامية واحدة، وأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو رسول الله وخاتم النبيين. وهم كذلك يعتقدون أن الإنسان يستطيع بالرياضات الروحية أن يبلغ درجة: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) ، ولكن هذه القربى الروحية لا تبلغ مرحلة الاندماج في الذات الإلهية كما هو الحال في عقيدة النيرفانا الهندوسية. التسمية بالجمهورية لا تتسق مع هذه العقائد بل هي في الغالب ضد الولاءات السياسية الطائفية في السودان، وهذا يفسر أن الحزب الجمهوري، أي تصنيف سياسي، دعم نظام المرحوم جعفر نميري وشجع بطشه بالأنصار، وألف الرسائل في تأييده في مرحلة كان النميري علمانياً، ولكن عندما اتجه النميري بصورة انتهازية لتبني شعارات إسلامية تقليدية عارضه الجمهوريون بعد أن كانوا متحمسين لتأييده.
الإسلام برسالته الواحدة قابل لاستصحاب تطورات الفكرر الإنساني الإيجابية، كما أنه التصوف الإسلامي قابل لدرجة عالية من القربى لله كما في مقولات السيد رابعة العدوية رضي الله عنها وهي تناجي الذات العلية:
أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بالذكر عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له فلست أررى الكون حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ودرجة أعلى من القربى:
قلوب العاشقين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرونا
وأجنحة تطير بغير خفق إلى ملكوت رب العالمينا
ولكن مقولات الجمهوريين لن تجد استجابة في التربة الإسلامية. ومع ذلك فقد قلنا بوضوح في كتاب “العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي” الصادر في عام 1984م أنه لا يوجد عقاب دنيوي على الردة، لذلك فإن إعدام الأستاذ محمود محمد طه في يناير 1985م باطل.
القومية العربية: قلت للأستاذ ميشيل عفلق في عام 1988م إن للبعث العربي مجال في المشرق العربي إذ يمثل قاسماً مشتركاً بين العرب المسلمين والعرب المسيحيين، ولكن هذه الدعوة في السودان تفرق بين الناس، لأن في السودان مكونات ثقافية أخرى زنجية، وبجاوية، ونوبية، ونوباوية. وافقني على خصوصية وضع السودان، وقال إنه سوف يراجع الموقف، ولكنه توفي قبل ذلك.
الحقيقة أن في تراثنا العربي دوراً مهماً لقيادات غير عربية: صلاح الدين الأيوبي الذي هزم الصليبيين كردي، وسيف الدين قطز الذي هزم المغول خوارزمي (تركي)، وعبد الحميد بن باديس أمازيغي، وعبد الرحمن الكواكبي كردي، وعباس محمود العقاد كردي . ولكيلا يؤدي الانتماء العربي لردود فعل مضادة في البلدان العربية، الصحيح أن نركز على أن العربية لسان، وأن نسمي الجامعة العربية جامعة الشعوب الناطقة بالعربية. هذا الأمر ينطبق على كثير من أعلام ثقافتنا.
الأفريقانية: هنالك من يربطها بالإثنية كما قال الرئيس اليوغندي يوري موسفيني ، هذا خطأ ويناقض رؤية قادة التحرير الأفريقي أمثال كوامي نكروما.
ينبغي ان تكون الأفريقانية أساساً للاتحاد الأفريقي الشامل للقارة كلها شمال وجنوب الصحراء، ولكن الدعوة لأفريقانية إثنية باطلة، فهناك إثنيات أفريقية كثيرة غير زنجية، وحضارة نوبيا، أساس الحضارة الإنسانية، غير زنجية، وتقع شمال الصحراء، كذلك الأمازيغ، وغيرهم.
الشيعية: كانت تلبية لمظلومية بني هاشم خاصة آل السيدة فاطمة رضي الله عنها. إن التعاطف مع آل البيت شائع بين كل المسلمين كما قال الإمام الشافعي:
يا بيت رسول الله حبـــــــــــــــــــــــكمُ فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكمُ من عظيم الفخر من لم يصل عليكم لا صلاة له
ولكن تطور الاعتقاد الشيعي الاثنى عشري لاعتقاد أن الإمام الثاني عشر حتماً عائد، وأن الإيمان بالإمامة أساس الإيمان كالنبوة، فلا برهان له.
وقد آن الأوان أن نخرج نحن أهل السنة من تسمية روافض، وهم من تسمية نواصب، ونقول مقولة النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا ، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمّتِهِ” .
لقد أصدرنا نداء المهتدين وهدفه جمع كلمة أهل القبلة على أساس الجامع بيننا، وهو: التوحيد، والنبوة، والمعاد، والأركان الخمسة، ومكارم الأخلاق. ما عدا هذه أمور مذهبية تلزم أصحابها وحدهم.
الخلافات المذهبية تتطلب التعايش كما أفتى علماء الأزهر النابغين أمثال الشيخ شلتوت رحمه الله. أما الخلافات المذهبية فإلى الله مرجعها كما قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.) .
المهدية: صار أمر المهدية محل خلاف كبير. هناك عشر مدارس حول المهدية. نحن طرف في هذه الخلافات، ونريد الاستقالة من التجاذب برؤية قد تندرج في تيار الإسلام العام، مفادها: أنه لا مجال لشخص غاب 14 قرناً أن يعود هو بذاته مهدياً لأن هذا ضد طبيعة الأشياء: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)، ولا مكان لشخص يأتي آخر الزمان مهدياً، فيومئذٍ (لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ) .
مهدية الإمام محمد أحمد كما حققت مراجعها مهدية وظيفية، وظيفة تسندها أوامر قرآنية: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) ، وغيرها من الآيات.
على هذا الأساس الوظيفي لدعوة الإمام محمد المهدي كان تأييد علماء لها، هذا ما قاله في تأييدها العلماء: سعد محمد حسن، وعبد الودود شلبي، ومحمد أحمد إسماعيل، وعبد العظيم البستي، وصاحبا العروة الوثقى، ومحمد عمارة.
القتال في الإسلام أصله دفاعي، ووسائل الجهاد تشتمل الوسائل المدنية. هذا ما قال به الإمام عبد الرحمن.
نعم في الدعوة مقولة غيبية، ولكن صاحب الدعوة وضع مقياساً لقبول دعوته إن وافقت الكتاب والسنة، والإمام عبد الرحمن أحياها بصورة متجددة، وصار ما بقي من الدعوة صالحاً لخطاب التيار الصحوي الإسلامي، ومفرداته:
– الراتب، وهو جامع دعوات لا مثيل لها للمناجاة، دعوات صالحات: مأدبة روحية.
– الاتباع التام فيما يتعلق بالشعائر.
– التخلي عن اعتبار الاجتهادات البشرية ملزمة.
– أن تكون أحكام المعاملات متحركة على قاعدة: لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال.
– المطلوب أن يتخذ المسلمون قيادة على أساس: من تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المؤمنين.
– التطلع لوحدة أهل القبلة والعمل من أجلها.
– رفض هيمنة القوى الإمبريالية.
ثامناً: الموقف السياسي الراهن:
ثورة ديسمبر 2018م ليست بلا حواضن، فقد عرت ست انتفاضات سبقت النظام من أية شرعية. وللجهاد المدني ضده بدريون واجهوا النظام في عدة مواقف وعزلوه بعدم مشاركته، ودفعوا ثمن ذلك استشهاداً واعتقالات ومصادرات وحملات تشويه.
إن للثورة التي تأججت في الأقاليم ثم تصادعت نحو الاعتصام في السادس من أبريل 2019م سجلاً واسعاً سوف يقيده المؤرخون.
لقد حرصنا على إنجاح مرحلتي الثورة الأولى بقيادة المجلس العسكري، والثانية بقيام النظام المشترك الانتقالي. ودعمنا الحماسة الثورية ورشدناها بالحكمة حتى قيام النظام الانتقالي المدني العسكري المشترك.
النظام الانتقالي يواجه تحديات هائلة أهمها:
– التركة المثقلة من إخفاقات أمنية واقتصادية ودبلوماسية، والتي تركها النظام المخلوع.
– محاصصة بعض القوى المعارضة تسلقاً، وظهور قلة كفاءتها واستهتارها بتصريحات كأنها معدة لإثارة ردود فعل مضادة.
– المهنيون في الأصل قاموا بمطالبات وظيفية، ثم تبنوا أجندة سياسية وناضلوا نضالاً مشهوداً. وفي أثناء الثورة خاطبناهم بما يعترف بدورهم النضالي وبنقد ما ارتكبوا من تجاوزات. والآن صار دورهم أن يطوروا جماعتهم إلى حزب سياسي ديمقراطي أسوة بنهج حزب العمال البريطاني، أو المشاركة في إصدار قانون جديد للنقابات وتكوين نقابات مهنية انتقالاً من الموقف الاستثنائي واستعداداً لبناء الوطن.
– الأحزاب السياسية التي شاركت في تقرير المصير السوداني عليها أن تفصل بين المكون الديني والمكون السياسي، وأن تجدد مؤسساتها الحزبية لاستيعاب المستجدات والالتزام بالمؤسسية والديمقراطية.
– الحزب الشيوعي وهو من شيوخ المعارضة يتصرف باستهتار من ناحية الحرص على المشاركة، ومن ناحية أخرى إطلاق قذائف في كل الاتجاهات: هجوم غر لا يخاف عواقبا. ما يجعل أمثالنا يقولون: مع أصحاب مثل هؤلاء، من يحتاج لأعداء؟ صداقة مؤسفة وصفها الحكيم:
ومن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
– النظام المخلوع لم يترك دولة عميقة بل دمر مؤسسات الدولة ولكن ترك أربعة وجوه للتمكين: هياكل حزب حاكم حائزة على امتيازات رسمية، وكوادر حزبية محتلة مؤسسات الحكم، وشركات ممتدة في قطاع خصوصي وإعلامي، ومليشيات مقنعة.
– قوى ممانعة مسلحة بدل توحيد موقفها لتثمير فرصة تاريخية نادرة لتحقيق استجابة قومية واعدة لإزالة كافة أسباب النزاع مرة واحدة دخل كثير منها في بورصة مزايدات تنذر بتحويل ملف السلام المهم إلى مزاد سياسي.
– بعض حلفائنا في الحرية والتغيير لم يراجعوا أخطاء كثيرة ارتكبت بل زادوا الطين بلة بإقصاء قوى سياسية شاركت في الثورة، وتستحق المشاركة في المرحلة الانتقالية.
– القوى التي أقامت وشاركت في النظام الظلامي لا يمكن أن تتعامل مع الوضع الجديد بلا تخلية مقنعة: مراجعات تبدأ بالاعتراف بخطيئة الانقلاب العسكري، وبخطيئة إقامة نظام إقصائي شوه الإسلام ومزق السودان، وإبداء الاستعداد للمساءلات القانونية المنتظرة. ما كل الذين شاركوا في النظام المخلوع معنيون بالمساءلات، ولكن هنالك خطايا سياسية تشمل كل المشاركين في نظام قلب نظام حكم ديمقراطي، ومارس إقصاء الكافة، وارتكب المذابح.
تاسعا: ما هو موقفنا؟
مهما كانت التحفظات فنحن ندعم مؤسسات الحكم الانتقالي ونجهز أنفسنا لمواجهة الغلاة ودعاة الردة في كل المستويات وفي الأحياء وفي المحليات وفي العواصم، ونشد من أزر مؤسسات الحكم بالتأييد وبالنصح، ونقول إنه في حالة تعثر المسيرة بسبب جسامة التحديات فإن العلاج هو القفز إلى الأمام كما حدث في جنوب أفريقيا، وفي تشيلي، وفي أسبانيا، نحو انتخابات عامة حرة يستثنى من المشاركة فيها أحزاب النظام المخلوع، إلى حين أن تجري المراجعات والنقد الذاتي المطلوب، ليشارك من يشارك، بعد التخلية، في بناء الوطن.
عاشراً: ما هو المطلوب من الأسرة الدولية؟
ولإنجاح الفترة الانتقالية وحماية الوطن سوف نحرص على أن يتجاوز الأشقاء خلافاتهم ويشتركوا في مشروع مارشال لإنقاذ الاقتصاد السوداني.
كما نخاطب الأسرة الدولية لتطوير مشروع أصدقاء السودان إلى مؤتمر دولي خاص بالسودان بعنوان دافوس للسودان، لدعم السلام العادل الشامل في البلاد، ودعم التنمية الاقتصادية.
نداء أخوي للجميع: الدكتاتورية لا تصلح في السودان، والخيار الوحيد الممكن في السودان هو النظام الديمقراطي، نعم المستفيد من تجارب الماضي، ولكن الذي يكفل خماسية حقوق الإنسان ورباعية ولاية الحكم.
أقول ما أقول باجتهاد فكري وسياسي ومشاركة واسعة، ومن وحي صاحب المولد عليه الصلاة والسلام:
لما أراد الله جل جلاله أن يخرج الكون من الظلمات
أهداك ربك للأنام يا حبنا فيضاً من الأنوار والرحمات