31/8/2018م
مقدمة: إن للمملكة العربية السعودية أهمية بالغة عربياً، وإسلامياً، ولنا جيرانها عبر البحر الأحمر، وللقارة الآسيوية موقعها، ولأفريقيا غرب البحر الأحمر، وعالمياً؛ واستقرارها واستيعابها للمستجدات يهمنا جميعاً بصورة مباشرة.
فيما يلي اتناول هذا الموضوع المهم عبر عشر نقاط:
أولاً: بالنظرة السطحية تبدو المملكة كأنها تسير على وتيرة واحدة. ولكن الحقيقة السوسيولوجية هي أن القانون الوحيد الذي لا يتغير هو حتمية التغيير، فدوام الحال من المحال.
ثانياً: شهد تاريخ المملكة الوسيط صراعات كثيرة حسمها التأسيس الثالث للمملكة على يد الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله. هكذا تأسست المملكة عام 1924م وأهم سماتها أنه أبرم عقداً مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب الداعية السلفي وبموجب ذلك خاض قتالاً جهادياً وحد المناطق الأربعة: الحجاز، نجد، تهامة، وعسير في دولة واحدة؛ واتخذ من اجتهاد الشيخ محمد عبد الوهاب أساساً لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وأقام علاقات منافع متبادلة مع الولايات المتحدة.
ومنذ البداية واجه خلافين مهمين: خلاف مع المقاتلين الذين خاضوا الجهاد (الأخوان) لأنهم حرصوا على مواصلة الجهاد خارج حدود الجزيرة العربية، وخلاف مع فقهاء طعنوا في شرعية التحالف مع الولايات المتحدة. خلافان حسمهما الملك ما ساهم في استقرار الدولة وتأسيس ولاية الأمر للملك عبد العزيز ثم لأبنائه بعده كابراً عن كابر.
ثالثاً: شهد التاريخ الحديث للمملكة ثلاث موجات إصلاحية: الأولى على يد الملك فيصل رحمه الله الذي نقل نظام الملك إلى المؤسسية، والذي واجه مشروع القومية العربية الصاخب في ستينيات القرن الماضي بالدعوة للتضامن الإسلامي. الموجه الثانية انطلقت في التسعينيات إذ قدمت للسلطة عرائض تطالب بإصلاحات فتجاوب الملك بوضع نظام أساسي للدولة (دستور)، وتخصيص صلاحيات مناطقية، وتكوين مجلس شورى.
ولكن منذئذٍ استجدت عوامل كثيرة أهمها عشرة:
(أ) الدولة المجاورة إيران كانت تعتبر في نظر الولايات المتحدة شرطي المنطقة ووصفها الرئيس الأمريكي السابق بأنها واحة استقرار في محيط مضطرب. ولكن هذه العلاقة وما صحبها من تغريب للثروة كانت من أهم عوامل التعبئة الشعبية المضادة لنظام الشاه. قال مارك كيرتس في كتابه مفارقات القوة: “يجهل كثير من الأمريكيين حجم الغضب الإيراني من بريطانيا وأمريكا لما دبراه ضد بلادهم. فكان لهذا الغضب الإيراني دوراً في إشعال الثورة الإسلامية”.
الثورة في إيران 1979م أشعلت حماسة في كل أوساط العالم الإسلامي لا سيما في الأوساط الشيعية. وكان واضحاً أن هذه الثورة تخاطب المسلمين خارج الحدود القطرية. وبالفعل تعاظم الدور الإيراني في المنطقة مؤخراً بتشبيك مع الشيعة وبرعاية بعض الحركات الإٍسلامية عبر العالم.
(ب) الشيخ ابن تيمية وهو من مراجع الاجتهاد الوهابي يقول بصحة أحاديث عن المهدي المنتظر، وكان المسلمون على أعتاب قرن جديد، وتكررت المآخذ على نظم الحكم في العالم الإسلامي بأنها فاسدة وممزقة فنظم جهيمان العتبي في 1979م حركة احتلال الحرم المكي ليظهر المهدي محمد عبدالله القحطاني. هذا التمرد أمكن قمعه ولكن بعده أعطيت رابطة العالم الإسلامي والنظم المذهبية كرتاً أبيض للتشدد في تطبيق الأحكام المذهبية داخل المملكة وخارجها كرد على انتقادات الجهيمان، وكثير من أبواب التسامح والتحديث سدت.
(ج) وفي 1980م غزت الدولة السوفيتية أفغانستان ما أدى لانتظام مقاومة شعبية أفغانية، ولمواجهة القوات السوفيتية دعمت الولايات المتحدة الحركات الجهادية وطالبوا من المملكة دعمها فتوافرت لكثير منها إمكانات مادية ومعنوية هائلة، فنتج عن ذلك تكوين القاعدة التي ساهمت بصورة فاعلة في طرد القوات السوفيتية على أساس تحرير بلاد المسلمين من الأجانب. وبعد تحقيق هذا الهدف تحولت القاعدة بالتحالف مع طالبان لمواجهة الوجود الأمريكي.
الدعم الأمريكي السعودي للقاعدة رفع من شأنها حتى أن مجلة الاكونمست في 2002م روت أن غالبية الشباب السعودي يدعمون القاعدة. وخطأ التعامل الأمريكي مع القاعدة زاد من وزنها ومكنها من تكوين شبكة مراكز في العالم الإسلامي كالقاعدة في بلاد المغرب، والقاعدة في أرض الرافدين..الخ ونتيجة للاحتلال الأمريكي للعراق تحولت القاعدة في أرض الرافدين إلى داعش ثم الخلافة المزعومة. هذه التطورات صارت تخاطب الشعوب بما يطعن في شرعية نظم الحكم في العالم الإسلامي والدعوة لإسقاطها وإقامة خلافة إسلامية.
(د) وفي اتجاه آخر منذ عام 2011م انطلقت من تونس ثم مصر، وليبيا، وسوريا، واليمن ثورات الربيع العربي وشعاراتها الثورية: كرامة، عدالة، حرية، ومعيشة. هذه الثورات حتى في البلدان التي لم تشهدها أحدثت تعاطفاً شعبياً.
(ه) واتضحت عيوب الاعتماد على مصدر وحيد للثروة: البترول، بسبب تقلب أسعاره بصورة مقلقة للإدارة المالية والاقتصادية في البلاد المنتجة للبترول.
(و) وبدأ واضحاً أن الاضطرابات في المنطقة العربية قد أدت لتمدد شيعي ليس في نطاق المذهب الإثني عشري وحده، بل تمددت ظاهرة الشيعية السياسية بما شمل العلويين، والزيدية. فتكون هلال شيعي ممتداً من لبنان، سوريا، العراق، واليمن. لم تعد المواجهة مع إيران هي فقط مع الفرس ومع المذهب الاثني عشري. ففيها الآن مكون عربي في لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن. فهؤلاء عرب ومذاهبهم الشيعية ليست انثى عشرية، وقد كونوا فصائل شعبية مسلحة حزب الله، وأنصار الله، والحشد الشعبي، كما أسسوا تحالفات مع قوى مقاومة سنية.
هنالك قيادات إيرانية متطرفة تستغل هذه الظروف لقيام كيان واسع تقوده إيران في مواجهة السنة. لكن آخرين كحركة الإصلاح داخل إيران بقيادة الرئيس الحالي حسن روحاني والرئيس السابق محمد خاتمي، وقيادات شيعية نافذة في لبنان والعراق أمثال مقتدى الصدر؛ هؤلاء لفظوا المواجهة وطالبوا بنهج تعايشي في المنطقة وفي العالم. إن الفتنة بين روافض ونواصب موروث تاريخي لا يمكن حسمه بالقوة، بل الاقتتال سوف يقود لنتيجة صفرية مثل حرب 1980- 1989م، والخيار الوحيد المطلوب هو مشروع سلام وتعايش، فالأوروبيون بعد اقتتال طائفي 30 عاماً وجدوا أن الخيار الوحيد الممكن هو الصلح الذي أبرموه 1648م في وستفاليا.
(ز) هذا بينما تراجع حتى أكثر نظم الاتحاد العربي قوة: مجلس التعاون الخليجي، فوقفت ثلاث دول: المملكة، والإمارات، والبحرين في جانب ضد قطر، مع وقوف الكويت وعمان في الحياد.
(ح) ولا شك أن الاهتمام بالتعليم للرجال والنساء والبعثات الخارجية وسعة الاتصال بين السعوديين والعالم الخارجي، واتساع مجالات الاتصالات والتواصل عبر الوسائل الإسفيرية خلق راياً عاماً جديداً، لا سيما في أوساط الشباب من الرجال والنساء، وغذى تطلعات ملحة للتغيير.
(ط) وجأر الرأي العام بالشكوى من الفساد بصورة اعترف بها الأمير بندر بن سلطان بقوله: نعم حجم الفساد لصالح الطبقة الحاكمة يبلغ 50 مليار دولار.
(ي) وبدا واضحاً أن الحرب الباردة بين الدول الكبرى قد استجدت ما يتطلب خطة واعية للتعامل مع المحيط الدولي.
هذه العوامل العشرة تتطلب مراجعات فكرية وسياسية للتعامل معها.
إنها عوامل تستدعى بصورة ملحة الحاجة للتجديد.
خامساً: البيت السعودي اتسم غالباً بوحدة الصف، ولكن منذ الستينات ظهرت مطالب بدولة ملكية دستورية قادها الأمير طلال بن عبد العزيز وآخرون. وفي عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله قرر تكوين مجلس البيعة ليقرر بشأن الخلافة على الملك وولاية العهد.
الملك سلمان بن عبد العزيز الذي خلف أخاه في العام 2016م عين ولياً للعهد الأمير محمد بن نايف وعين ابنه سلمان ولياً لولي العهد. وبعد حين عين الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد. هذه الخطوة قفزت فوق التقاليد المعهودة، ولكن مجلس البيعة أقرها.
الأمير محمد بن سلمان في حداثة سنه يمثل نهجاً جديداً ومنذ ولايته أقدم على نهج تجديدي اقتصادي واجتماعي تحت عنوان رؤية 2030.
سادساً: نداء الإصلاح صحيح بل ضروري، وكذلك الإقدام الراديكالي لتحقيق الإصلاح. إنه نهج ألهب حماسة كثير من الشباب لا سيما المرأة التى أحست بالاعتراف لها بحقوق حرمت منها.
ولكن ثمة أربعة ملاحظات هي:
· غياب رؤية كلية للإصلاح تحدد معالمه وحاضنته الأيديولوجية التي يراد أن تحل محل الحاضنة السلفية.
· غياب المشاركة في نهج التجديد بما يوفر حاضنة اجتماعية.
· محاربة الفساد مطلب مهم ولكن ينبغي أن يكون منهجي بأحكام قانون من أين لك هذا؟
· ظهور الإصلاح في شكل علاقة خاصة مع الولايات المتحدة في وقت فيه رئاسة الولايات المتحدة تتبع سياسة ابتزازية وانحيازاً واضحاً لإسرائيل. ظنت إسرائيل أنها قد قضت على مقاومة الدول العربية لها وأن إيران هي التي تواجهها، وقد دعمت حزب الله وحماس في مواجهتها. لذلك حرصت على دفع الولايات المتحدة لضرب إيران. الرئيس الأمريكي الحالي لم يعد مستعداً للحروب في الشرق الأوسط الكبير، فكل تدخلات بلاده العسكرية كلفت بلاده 7 ترليون دولار، وضحايا بشرية وجاءت بنتائج عكسية. لذلك صارت أطروحته أن تتولى دول المنطقة الدفاع عن نفسها ضد إيران. هذا يؤكد لمن يعتمدون على قيادة أمريكا لمواجهة عسكرية ضد إيران عدم استعداد أمريكا للقيام بهذا الدور. ما يترك المجال لمبادرة عسكرية إسرائيلية. أية حملة عسكرية تقودها أو تشارك فيها إسرائيل ضد إيران سوف تكون لصالح إيران معنوياً وشعبياً مهما كانت المعادلة العسكرية، قبلة موت لمن يقف معها.
سابعاً: المطلوب لنجاح المشروع الإصلاحي:
• إحلال أيديولوجي إسلامي يوفق بين التأصيل والتحديث، ويتطلب إصلاحاً لمناهج التعليم الديني، وللخطاب الإعلامي والمنبري بشكل جوهري.
• إصلاح سياسي يواكب الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي ويحقق المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.
• إصلاح سياسي يحفظ للأسرة مكانة في إطار المشاركة الشعبية.
• تحديد أولويات مدروسة لبرنامج الإصلاح.
• مشروع سعودي لعلاج أزمة مجلس التعاون الخليجي، ولتحقيق درجة أعلى للتعاون العربي وللتضامن الإسلامي. ينبغي بأعجل ما تيسر القضاء على الفتنة الطائفية لا تصعيدها.
• الوجود الشيعي في البلاد وفي الجوار وجود عضوي لا يمكن محوه بالاقناع ولا بالقوة ولا سبيل سوى التعايش العادل. ولا يمكن لمشروع الإصلاح أن يجدي ما لم يصحبه القضاء على الفتنة الطائفية.
ثامناً: نجاح مشروع الإصلاح يتطلب سلاماً إقليمياً يقفل الباب أمام حركات الإرهاب، وأمام استغلال الهيمنة الدولية لاضطرابات المنطقة. وجدير بالمملكة في نهجها الجديد أن تحرص على عقد معاهدة سلام وتعايش عربي، إيراني، تركي.
تاسعاً: إن مشروع الإصلاح سوف يثير ضده حتماً كثيراً من قوى المصالح الذاتية وقوى الانكفاء. لا بد من تجريد هؤلاء من أية مبررات في المجال الشعبي السعودي، وفي المجال الإسلامي، وفي المجال العربي، وفي المجال الفلسطيني، خاصة الموقف من إسرائيل، فهي تتأهب لاستغلال المشاكل العربية، وهنالك دلائل كثيرة عددها الكاتب اليهودي قريق كارل بروم: إلى متى تبقى إسرائيل (التحديات الداخلية) عوامل تجبرها على سلام عادل يرد لأهل البلاد حقوقهم أو تسعى لحتفها بظلفها.
أخيراً: إن للمملكة العربية السعودية فرصة كبيرة لدور إصلاحي داخلي يرضي شعبها ويعزز دورها العربي، والإسلامي، والدولي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا”[1]. وقال الحكيم العربي:
إِذا هَبَّتْ رِياحُكَ فَاغْتَنِمْها فَإن لكُلِّ عاصفَةٍ سُكُوْنُ
وقال الحكيم الغربي:
فرص الدهر كموج البحر
من ركبه نال المنى
ومن أضاعه حصد الندم
فلنركب الموج نفز
أو فاتنا فات الفلاح
[1] المعجم الأوسط للطبراني