12 ربيع الأول 1439هـ
30/11/2017م
الفيصل في فضيلة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود لنصوص نقلية ولكن لفقه المقاصد. من مقاصد هذه الذكرى تبيان سيرته القدوة، ابتهاج كل الأجيال بذكرى مولده، جعل سيرته العظيمة جزءاً من النسيج الاجتماعي.
هذه محامد. وكل أمر نريد معرفة أحميد هو أم خبيث نعرضه لتساؤل: هل يدعم مقاصد خيرة أم يهزمها؟ فإن دعمها فهو بذلك يدخل في باب (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ)[1] وباب (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ)[2].وقديماً قال الحكيم: “إن التشبه بالكرام فلاح”.
تناول سيرة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرون ولكن جاء في أكثر كتب السيرة ما يؤذي سيرته على النحو الآتي:
أولاً: كتب أعجبت بسيرة أنبياء بني إسرائيل الحربية وهم غزاة غزوا أرضاً لغيرهم فبالغت التوراة في بيان كفاءتهم الحربية. لذلك ألبسوا السيرة ثوباً غازياً مع أن أساس القتال في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[3].
إنهم لفرط مجاراة سيرة الغزاة سموا سيرته “المغازي” مع أن انتصاراته بالقوة الناعمة هي أساس فتحه وغزواته هي دفاعية.
ثانياً: أعجب كتاب بسيرة عيسى عليه السلام وهي مبنية على المعجزات منذ طفولته وصباه وحتى آخر أيامه. لذلك كتبوا سيرة للنبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولته حتى آخر أيامه تقوم على المعجزات بينما الحقيقة أن كل مراحل حياته بنص القرآن قائمة على مفردات معقولة ومانعة للمفردات العيسوية.
ثالثاً: ومن كتب السيرة ما صور النبي صلى الله عليه وسلم كأنه مستقل عن بنوة آدم عليه السلام على قياس: “إِنِّي لرسولُ اللَّهِ وسيّدُ المُرْسلين وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ”. هذا بينما النص القرآني يكرر دائماً: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)[4].
رابعاً: ومن كتب السيرة ما يجعل سيرته أنموذجاً لاستنباطات الفقه بحيث تصير مفردات السيرة شاهداً لصحة مقولات الفقهاء مثل زواج الفتاة القاصر وسن السيدة عائشة وقت زواجها.
خامساً: وهنالك مفردات كثيرة لا تليق بسيرته العطرة ولكن تبرر الشبق كإتيانه تسع نساء في ليلة وتقبيل زوجه ومص لسانها وهو صائم..إلخ.
سادساً: وفي بعض كتب السيرة ما يبرر تقديس مفردات في سيرة أصحابه والعصور التالية مع أن هؤلاء بشر فضائلهم بشرية وكذلك أخطاؤهم توجب دراستها بالمرجعية البشرية لا التأليه.
سابعاً: وبعض كتب السيرة ترسم صورة للسيرة باعتبار أن كل ما لا يطابقها بدعة تخرج صاحبها من الدين وأن كل مقولاته وحي ملزم، مع أن الحقيقة أن الوحي هو ما سجله القرآن وأن الأمر في العادات والمعاملات مرتبط بظروفه.
1. في الألف وأربعمائة عام التي مرت منذ الصدر الأول تطورت معارف الإنسانية في كل المجالات، تطورات:
أ. في علوم النفس تفسرً كثيراً من أحوال النفس الإنسانية.
ب. وفي العلوم الطبيعية في الفيزياء. والكيمياء. والبيولوجيا. وسائر العلوم الطبيعية.
ج. وفي علوم الإنسان وتصرفاته وثقافاته.
د. وفي علوم الفضاء.
ه. وفي السياسة.
و. وفي الاقتصاد.
ز. وفي علوم الأديان المقارنة.
ح. وفي العلاقات بين الدول.
ط. وفي علم الآثار.
إن الحقائق المكتشفة في هذه المجالات جاءت نتيجة للبحث العلمي والتكنولوجي وللاجتهاد الفكري والتجارب الإنسانية.
لا يمكن مخاطبة الإنسان المعاصر دون أخذ هذه المعارف في الحسبان.
والحقيقة أن كل ما في الوجود يعتبر كتاب الله المنشور، وما فيه من سنن حق كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ)[5]. السؤال المشروع هل في مفردات سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يخاطب أصحاب هذه المعارف؟
الجواب نعم والمطلوب كتابة سيرة للنبي صلى الله عليه وسلم مدركة لهذه المعارف. إن كتابة سيرة كهذه واجب فالنبي نفسه قال: ” نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ”[6]. وما قاله إمام المتقين علي فيما روى البخاري:”حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟”.
المطلوب في هذه السيرة المنشودة ليس تأليف لمفردات السيرة. بل فهم جديد لمفردات السيرة. على ضوء معارف العصر، فهم مشروع لا منحوت ولا مبتدع.
2. وخلافاً لاعتبار السيرة وسيلة لتجميد صورة الإنسان فإن السيرة أساس لرسم صورة معطاءة للإنسان، فهو عن طريق الإلهام متصل بمعين روحي وسيلته الإلهام كما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن المحدثين وعن الرؤيا الصالحة ومقولة فراسة المؤمن الذي ينظر بنور الله والنص القرآني: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)[7].
والسيرة أساس لحرية الإنسان: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)[8]، لذلك رغم وجود مخالفين له تعامل معهم بموجب صحيفة المدينة المبينة لحقوق حتى المخالفين والمنافقين.
والسيرة أساس للعقلانية على نحوٍ التزم برأي الحباب بن المنذر في بدر ورأي سلمان الفارسي لدى غزوة الأحزاب.
سيرة تستشهد بمفردات حياة النبي صلى الله عليه وسلم للحرية والعقلانية والإلهامية وعلى ضوئها يفهم أن من الناس قوم ذوو شفافية روحية على نحو ما قال الإمام مالك: “من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق “.
وعلى ضوئها تفهم عقيدة المخلص أو المهدية لا على أساس شخص بل على أساس وظيفة، ومعلوم أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين لذلك صارت النبوة مستمرة في الأمة كما قال النبي: “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ عُدُولُهُ” الولاية والمهدية اتخذتا في أذهان الناس أشكالاً كثيرة ولكن الذي يمكن الإجماع عليه هو أن الرسالة مستمرة في الأمة وأن هذه الرسالة تتطلب الإحياء وأن هذا الإحياء يقوم به من هدى الله وهدى به.
إحياء الدين واجب قرآني: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)[9].
دعوة الإمام محمد أحمد المهدي في السودان بقراءة متدبرة لنصوص أقواله وأفعاله لا تقول بأنه الإمام الثاني عشر محمد الحسن العسكري، ولا تقول بأنه أتى في آخر الزمان كما يقول بعض العلماء، ولكن تؤكد أنه جاء بوظيفة إحياء الدين بإلهام غيبي لإبطال إلزامية الاجتهادات البشرية، وتأكيد إلزامية نصوص الوحي القطعية في الكتاب والسنة. ووضع مقاساً لأقواله وأفعاله أن تطابق قطعيات الوحي هذه، وإلا يضرب بها عرض الحائط كما قال.
هذه المعاني تنفي عن دعوته الخصوصية الطائفية وتجعلها مصباحاً مضيئاً في تيار الإحياء الإسلامي.
ومثلما أوظف اجتهادي لتبيان رسالة الإسلام مصباحاً مضيئاً في مسيرة الإنسانية. أوظف اجتهادي لتبيان الدعوة المهدية مصباحاً مضيئاً في مسيرة الصحوة الإسلامية.
3. أهمية سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فتحت المجال لقدوة خبيثة تلك التي اعتمدت على مفردات مثل مقولة: “بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ”[10]..إلخ الحديث الذي بالإضافة لغيره صار أساساً للتطرف والعنف باسم الإسلام. هذا نهج يخالف الواقع فأين الساعة من ألف ونصف عام؟ ويخالف القرآن: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[11]. ينبغي أن تكتب السيرة بصورة تطابق القرآن، ومقاصد الشريعة، وبراهين العقل، وحقائق الواقع، لا أن تناقضها.
4. الإسلام اليوم هو القوة الثقافية الأكبر في العالم. وهو صاحب الوزن الاجتماعي الأكبر في بلاد المسلمين.
الحاجة ماسة لسيرة مبرأة من التطرف والعنف وتقدم النبي محمد صلى الله عليه وسلم رسول الإنسانية وهو يناسب حقيقة أنه بعث للناس كلهم وأنه النافي للتعصب الأعمى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[12].
5. والسيرة النبوية المنشودة تصلح أساساً لمقياس تجارب الأسلمة المعاصرة فما فيها من إكراه وظلم وفساد واستبداد وتعصب إنما تناقض صاحب السيرة، والعكس صحيح، فالتجارب التي تقوم على المشاركة والتسامح والعدل إنما تقتدي بصاحب السيرة.
إننا في ذكرى سيرته نقول:
عاطفياً:
نحبه لأنه بجملة بسيطة
من أروع الأقدار في حياتنا
وروحياً:
وَكِدْت بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا
وَأَنْ صَيَّرْت أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا
وعقلانياً:
لم يمتَحِنَّــا بمـا تَعيَــا العقولُ بـه
حِرصَـاً علينـا فلم نرتَـبْ ولم نَهِمِ
وتاريخياً:
لا سر فوق الإيمان بالله والنفع للناس
ولا شر فوق الشرك بالله والضر بالناس
ختاماً: سيرة محمد صلى الله عليه وسلم دون حاجة لخوارق بل بحقائقها تجعله مقنعاً للقرن الحالي مثلما كانت مقنعة للقرن الهجري الأول هذه من باب (ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ)[13].. إنها من باب معجزة تبصر العقل لا تناقضه.
نحن عامة أهل السودان نحب النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآله حباً بلا مطالب طائفية. محبة توجب الحرص على القدوة المحمدية التي تلزمنا بحماية مشارع الحق، والتصدي للظلم والظالمين الذين اختطفوا بلادنا وفرضوا على أهلها احتلالاً داخلياً. آن الأوان لتوحيد الكلمة وإمضاء العزيمة للعمل بكل الوسائل الخالية من العنف لإقامة نظام جديد أذن أذانه.
[1] سورة الأعراف الآية (157)
[2] سورة الأعراف الآية (157)
[3] سورة التوبة الآية (13)
[4] سورة الكهف الآية (110)
[5] سورة الحجر الآية (85)
[6] المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة
[7] سورة الحديد الآية (28)
[8] سورة الكهف الآية (29)
[9] سورة الأنعام الآية (89)
[10] مسند أحمد بن حنبل
[11] سورة البقرة الآية (256)
[12] سورة الحجرات الآية (13)
[13] سورة الملك الآية (4)