مؤتمر العلامة إقبال
نادي اسلام أباد، اسلام أباد في الفترة 7-8 نوفمبر 2017
ينظمه المعهد الإسلامي
الورقة التي قدمها الإمام الصادق المهدي
محتويات
القسم الأول: جانب من سيرته:
القسم الثاني: إرثه
القسم الثالث: أهميته للإسلام والعالم
أخي العزيز الرئيس،
الأخوة والأخوات زملاء وزميلات المؤتمر،
أرجو تقبل تحياتي وسلامي وأمنياتي الطيبة.
أثمن عالياً موضوع هذا المؤتمر، ودعوتي لأساهم في قيمته المضافة المتوقعة لرمزنا متعدد الأوجه: العلامة إقبال.
وسوف أحدثكم عنه تحت ثلاثة عناوين هي: جانب من السيرة الذاتية، وإرثه، وأهمية أعماله لشؤوننا الإسلامية والدولية المعاصرة.
القسم الأول: جانب من سيرته:
لقد أظهر إقبال خلال حياته عدة مواهب، وحصل على عدة مؤهلات، وقام بعدة أنشطة. ومن علامات عظمته أن انجازاته لقيت تقديراً متزايداً بعد وفاته. وكما قال الشاعر العربي:
قد مات قومٌ وما ماتت فضائلهم وعاش قوم وهو في الناس أموات
وقال شاعر عربي آخر زار قبره، الصاوي شعلان:
عجِبتُ لنجمٍ مُشرِقٍ وهو غائبٌ ومُحتجبُ، مازال يبدو ويظهرُ
ولم أرَ نجماً قطُّ بعد احتجابهِ يزيدُ ضياءً في العيونِ ويُبهرُ
لقد رسمنا في ثقافتنا بحق نماذج من سير صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المآخذ أننا ملنا لاعتبار تاريخهم تاريخاً مقدساً؛ ينبغي أن نؤنسن ذلك التاريخ لنستفيد من مثالهم كبشر. كذلك، ينبغي ألا تتوقف النمذجة في فترة معينة من الزمن، بل تظل مستمرة طوال تاريخ الأمة.
إن سيرة إقبال وزمرته في لائحة الإنجاز، ينبغي أن تشكل لنا ببلوغرافيا للنماذج المرغوبة.
القسم الثاني: إرثه
إنه بالنسبة لباكستان شاعر وطني ومفكر عظيم، وبمثابة إلهام مؤسس.
وبرأيي فإنه بتطلعه لمجتمع فاضل جديد، سعى لإلهام المسلمين في الهند ليساهموا في مولد جديد للهند، شيء أشبه بعصرنة إنجازات السلطان محمود الغزنوي: إمبراطورية مغولية منقحة. لكن الحقائق السياسية بعد وفاته، أدت إلى التقسيم ومن ثم لكل المآسي اللاحقة.
لقد كان شعره محل تقدير كبير للمسلمين في الهند وجميع أنحاء العالم. فهو هنا يعد بمثابة جوتة للثقافة الألمانية، وشكسبير للثقافة الإنجليزية، والفردوسي للثقافة الفارسية وهلم جرا.
ويمكن وصف شعره بأنه كشعر أبي العلاء المعري، فلسفة منظومة.
كان إقبال يعتبر الرومي أستاذه، ويعبر في الكثير من شعره عن مفهوم الرومي بأن جميع المخلوقات تعبد الخالق، ويمكنها أن تشهد وجوده، ونوره، وتجلياته. ليس وحدة الوجود، ولكن وحدة الشهود.
لفهم فلسفة إقبال بشكل صحيح، فمن الضروري تحديد صورة الإنسان في الحقيقة قبل التنزيل وهو أن به قبس من روح الله، وعقل، وحرية اختيار.
إن فكرة إقبال الأكثر ثورية هي أنه بما أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هي الرسالة الخاتمة، ينبغي لها أن تحرر المؤمنين حتى يفعـّـلوا مواهبهم الطبيعية، من عقل، وروحانية وإرادة حرة، كمصادر للمعرفة. لكن التفسيرات التقليدية لسنة النبي صلى الله عليه وسلم جعلتها قيوداً على العقل والإلهام الروحي. قال:
لا تلمني يا صديقي إنني خدمة للعقل أنهيت النبوة
لم أشأ أرضى لكم أوهامكم فخذوا أقدراكم عني بقوة
مجدكم في الأرض لا ترسمه جثث تسكن في جوف المقابر
فخذوا أقداركم وانتبهــــوا واصعدوا انتم على تلك المنابر
إن نهاية النبوة في رأيه، ينبغي أن تشكل للناس مولداً للفكر البرهاني وللإلهام الروحي. وقد مارس إقبال هذه الولاية فعلياً، فسعى لمهمة جريئة جداً تحت عنوان: إعادة بناء الفكر الديني.
كان العالم الإسلامي بأسره قد وقع بحلول القرن التاسع عشر تحت سيطرة الغرب. وعلى الرغم من أن الدول الغربية سادت بتفوق القوة العسكرية، فإن الدول التي غزتها كانت في حالة تحلل ثقافي واجتماعي محزن. وعلى حد تعبير مالك بن نبي، كانت في حالة من القابلية للاستعمار.
كان الأثر الاجتماعي والثقافي للغزاة مذهلاً؛ ومن ثم تفاعلت المجتمعات المغلوبة عبر ثلاثة سيناريوهات: الرفض الكلي للغرب، وعلى النقيض منه القبول الكلي لدرجة الذوبان، وكان رد الفعل الثالث هو محاولة التوفيق.
أما الخيار الثالث فقد دعا إليه بعض العلماء، الذين كانوا على معرفة جيدة بالفكر الإسلامي، ولكن بفهم سطحي للحضارة الغربية، يمثلهم جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، وآخرون.
صار العلمانيون مهيمنين سياسياً وثقافياً، ما أدى لرد فعل أصولي إسلامي، طغى على تطلعات المدرسة الأفغانية. حتى أن تلميذها، رشيد رضا، اتجه نحو الأصولية.
لكن، كان هناك ذوو المعرفة الجيدة بكلا الثقافتين الإسلامية والغربية. ينتمي إقبال لهذه المدرسة، إلى جانب مفكرين أمثال مالك بن نبي، وعلي شريعتي وغيرهما. وقد بذل هؤلاء الثلاثة جهوداً جادة لإعادة بناء الفكر الديني. وتمثل مساعيهم عهد النهضة الإسلامية.
لقد كان إقبال مؤمناً مخلصاً للعقيدة الإسلامية، ولكنه استنكر أن جعلها التقليديون قيداً على العقل والحرية. لقد أعجب بالكيفية التي انتشر بها الإسلام وهيمن على العالم لمدة سبعة قرون. ورأى كيف استوعب الإسلام المعتدين الدمويين مثل جنكيز خان وهولاكو فصاروا دعاة له. قال:
بغت أمم التتار فأدركتها من الإيمان عاقبة الأماني
وأصبح عابد الأصنام قدما حماة البيت والركن اليماني
ورفض آراء أولئك الذين ضحوا بالهوية لصالح التنمية، محتجاً بأن من يتجاهل ذاتيته سوف يفنى. قال:
كل من أهمل ذاتيــــــته فهو أولى الناس طراً بالفناء
لن يرى في المجهر قوميته كـــــل من قلد عيش الغرباء
ولكنه بقدر ما نادى بأولوية الهوية، رفض الآراء التقليدية التي تجعل الإسلام لا يواكب العالم الحديث.
إن الخطر على الإسلام ليس من الحضارة الغربية التي نمت هي نفسها من جذور الحضارة الإسلامية كما اعترف بيكون، ووات وآخرون. إن الخطر يأتي من فشل الفكر الإسلامي الراكد، والتحلل الاجتماعي.
أرسم هنا الخطوط العريضة لأهم أفكار إقبال:
أ) إن الهبوط من الجنة ليس تغييراً للأماكن، ولكنه تغير في الحالة من الحياة الجبرية للحياة الحرة.
ب) الجبرية تدمر مسعى الإنسان، القدر يعتمد على إرادتنا.
ج) ينبغي أن نترك ثقافة الاعتماد على الماضي لتشكيل المستقبل.
د) لقد شكل العلماء والحكام الطغاة تحالفاً غير مقدس لقمع الشعوب. ينبغي أن يتحرر الناس من هذا الاستبداد.
ه) ينبغي أن يكون العقل الإسلامي شجاعاً بما فيه الكفاية لاختيار مستقبله دون أن يكون أسيراً لقدسية الماضي. ولا يوجد لنظام الخلافة القديم أي مبرر من حقائق الوحي. إن أفضل ما يخدم مبدأ العدالة العزيز في الإسلام هو النظام الجمهوري الديمقراطي. إن تاريخ الخلافة هو تاريخ مُلك مستبد.
و) تطوير قانون الشريعة أمر حتمي. الفقه الإسلامي له أهداف معينة؛ ينبغي تطوير الأحكام بشكل مستمر لخدمة هذه الأهداف عبر تغيرات الزمان والمكان المختلفة.
وذكر أن نصوص الوحي نفسها تتطلب تعاملاً متحركاً فيما يتعلق بالتشريع.
ز) العبادة تجلٍ للتفاني واسع المجال، تقبل كل الساعين لرضا الله، ولله المشرق والمغرب وحيث ما تولي فثمَّ وجه الله. لذلك رفض إدانة الحلاج من قبل التقليديين الذين طالبوا بصلبه. وقال إن لويس ماسينيون كان على حق حول الحلاج. إذ لم يكن موقفه أن يرى نفسه منفصلاً عن الله. وفي هذا الصدد هناك الحديث النبوي: قال الله: “مَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ” (رواه البخاري)، وهذه الفكرة أعرب إقبال عنها شعرياً:
“إن يكن غيبك التعظيم عن لحظ العيان
فقد صيرك الوجدان من الأحشاء دان”.
ح) ويكرر مع الرومي دعم كرامة الإنسان، والأخوة بين جميع الأديان. ويؤكد أن الطريق إلى الله يتجاوز الطوائف والعقائد. يضع إقبال هذا شعراً:
إنما العالم طراً معبد كل من أحسن فيه يعبد
كل من في دهره قد أجملا فكرة أو قولة أو عملا
كلهم لله نعم العابد كلهم للخير نعم القاصد
هذه الأفكار تدعم آراء أحمد الفاروقي السرهندي. وهي تختلف عن سياسة السلطان (جلال الدين) أكبر، الذي حاول إقامة عقيدة جديدة للهند عبر خلط الديانات المختلفة.
ط) يعتقد إقبال في الآخرة كجزء من العقيدة الإسلامية. ويعتبر وصفها القرآني مجازاً. بالنسبة له فإن الجنة والنار حالتان لا محلان. الجنة هي أن تنتهي بالقبول الإلهي. والنار أن تخضع للتنقية من الشرور حتى تصير مؤهلاً للقبول الإلهي. ومع أن الأوصاف القرآنية محددة، إلا أنه مذكور أيضاً أن هناك (خلق جديد)، وأن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. وأنه (إلى ربك المنتهى). يقول:
أنت روح الله تسعى نحوه رغبا أو رهباَ أو ولها
أي نار أو نعيم ترتجي؟ وإلى ربك فيه المنتهى
بالنسبة لإقبال، الجنة هي حالة الفوز والرضى. وليس في الإسلام لعنة أبدية. والنار ليست هاوية حفرها إله منتقم، لكنها ظرف لتطهير مرتكبي الشرور ليتأهلوا للحياة الحرة. والجنة ليست عطلة كسولة، ولكنها متعة النعيم الروحي. إنه يردد كلمات الصوفية الشهيرة رابعة العدوية:إن قوماً عبدوك رجاء جنتك فتلك صفقة تجارية، وإن قوماً عبدوك خوف نارك فتلك صفة العبيد وإن قوماً عبدوك لأنك أنت الله .. هؤلاء وحدهم من عرفوك.
ي) دافع إقبال عن رؤية للقدر ترفض الجبرية التقليدية كجزء من العقيدة الإسلامية. وقد اخترع الطغاة هذا الرأي لحماية سلطتهم الاستبدادية. قال به مؤيدو الأمويين والعباسيين، وبكلمات معاوية: “لو لم يرني ربي أهلاً لهذا الأمر ما تركني وإياه”.
قال إقبال إن الناس أحرار في تقرير مصيرهم. وأن الأقدرا تكتب بعد حدوثها. (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم)، كذلك (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ). وإن وجهة النظر التقليدية الجبرية للقدر تعد خفضاً مزرياً لقيمة الإنسان. في شعره:
“أيها المسلم يا نور السماء كيف لا تشرق في أرض البشر
أنت سلطان الليالي لا كما قالت الحمقى أسيرا للقدر”
ك) رفض الاعتقاد في مخلص منتظر، المهدي، باعتباره اعتقاد يدمر قوة العزيمة. فهو يجعل المؤمنين يتركون واجبهم في الإصلاح ويسلمون أقدراهم للمنقذ المنتظر. ومن الأهمية بالنسبة لي، وجدي صاحب عقيدة مهدوية، أن أعلق على رفض إقبال للمهدية في الإسلام، مدعماً رأيه بمقولة ابن خلدون.
إن رفض ابن خلدون للفكرة أجوف، لأنه جادل بأنها تطيح باستقرار الحكم. بينما الحكومات المعنية كانت مستبدة، وقد ادعت سلطة دينية لدعم استبدادها. إن زعزعة استقرارها أمر كان ينبغي أن يُرتجى.
لكن حجة إقبال برفض المهدية، كاعتقاد ينطوي على انتظار خامل وفقدان لدافع التغيير والإصلاح، سليمة.
لم يصف جدي الكبير مهمته تحت أي من معتقدات المهدية التقليدية. فهناك اعتقاد الشيعة الاثني عشرية، وهم يتوقعون للإمام الثاني عشر الذي اختفى قبل اثني عشر قرناً أن يعود مهدياً. وهناك اعتقاد العديد من أهل السنة أن المهدي سوف يأتي في آخر الزمان. وكلا العقيدتين مؤهلتين لرفض إقبال. لكن جدى لم يؤمن بأي منهما، لقد أعلن مهديته كولاية روحية تعبر عن مهدية وظيفية تتفق والحاجة إلى التغيير، تحديداً:
• أن التقليد الإسلامي السائد كبل الإسلام بعقائد تفسير إنسانية عبرت عنها المذاهب المختلفة. قال إن مذاهبهم ليست ملزمة. وأن النصوص الوحيدة الملزمة هي القرآن والسنة. فالوحي هو الملزم للمسلمين، لا الاجتهادات البشرية.
• في الإسلام هناك ثوابت هي التوحيد، والنبوة، والأركان الخمسة، والاعتقاد بالمعاد، ولكن المسائل الاجتماعية والمعاملات عرضة للتغيير المستمر. وبكلماته: لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال.
• أشار لأن ظروف العالم الإسلامي المعاصر كالحة، ومنبتة عن مبادئ الإسلام، وخاضعة لانقسامات مذهبية حادة، وتعاني من عدة مظالم، ومستضعفة بالاحتلال الأجنبي. ما دعا لحركة جذرية لخلاص العالم الإسلامي من الظلم والانقسامات والسيطرة الأجنبية. مفكرون مسلمون عديدون لا يؤمنون بتعابير المهدية التقليدية دعموا هذا الدور الوظيفي، على سبيل المثال الشيخ أحمد العوام، بل حتى مؤلفي العروة الوثقى.
• قال إنه بحث عن شخص يقود المسلمين لتغيير هذه الحالة المزرية، ولكنه لم يجده. وأثناء كدحه نحو ذلكم الفجر تلقى اتصالاً روحياً من قبل النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بأنه المهدي. هذا النوع من التواصل مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم شائع في الإسلام الصوفي.
• وبالتالي فقد عرّف المهدية بشكل وظيفي، وخلّص الإسلام من أغلال عقائد الماضي، وقد تلقى ولاية باتصال روحي هو عملة مقبولة بين المتصوفة، ولكنه وضع قاعدة أساسية كي تتم مقايسة أقواله وأفعاله بنصوص القرآن والسنة.
هذا الشكل من المهدية الوظيفية تدعمه آيات قرآنية عديدة، مثلاً: (إِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ).
لا أعتقد أن موقف إقبال يتعارض مع هذا التعبير الوظيفي عن المهدية.
ل) دافع إقبال عن رسالة الإنسان: إنني هنا في عالمي الذي أبنيه بعرقي وكفاحي، لقد صنعت قدري على هذه الأرض، لم تأت بي إلى هذا المكان حية ماكرة، ولم أسقط بغواية امرأة، ولم تنبذني من جنة عدن خطيئة أعيش إثمها وشؤمها، أنا هنا لأنني أحمل مشروع حياة وإرادة بناء، أنا هنا لأنني أريد أن أخلق عالمي بيدي، ولا أريد أن يصنعه لي خدام السماء.
م) للأسف فإن نهاية النبوة أنتجت تاريخياً عالماً من ركود الفكر، وتجميد الفقه، والملك المستبد. القرآن يتوقع منا أن ندرس قوانين الكون، وأن نستخدم عقولنا، وأن ندرس تاريخ الآخرين كمصدر للمعرفة، وكلها جوانب ترتبط بنهاية النبوة. إن ختم النبوة ينبغي أن يدفعنا لنخلق عالماَ فيه:
– تمكين العقل.
– اعتراف بكرامة الإنسان ومساواته.
– استيعاب لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
– تعدد العقائد الدينية قاعدة مقبولة.
– السنة لا تفرض تكرار الماضي، ولكنها تستخدم نهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المستجدات.
– لكن، بالرغم من أن نهاية النبوة تمكّن لولاية العقل، فإنها لا تنهي الإشراق الروحي. نعم لن يوجد مزيد من الأنبياء، ولكن هناك الولاية، أي الترقي الروحي.
وهنا يكمن نزاع كبير: قال الغزالي إن الإدراك الحسي خادع، وبالتالي فإن العقل قاصر. وأن الإشراق الروحي هو المفضي للحقيقة. ومع ذلك، قال الفيلسوف الأشهر ابن سينا، بعد ثلاثة أيام من لقائه مع الصوفي الشهير – أبي سعيد بن أبو الخير: ما أعرفه، “يراه” وما “يراه” أعرفه. وهذا يعني أن هناك مساران عقلاني وصوفي معاً. ينتمي إقبال لهذه المدرسة.
ن) أخذ إقبال على التقليديين أنهم حولوا السنة لقميص حديد. في القصيدة التي يخاطب فيها النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
أيها الصادق كم من نكبة قد نكبناها بنص مسند
لم تكن تعلم لما قلتها أنها دستورهم للأبد
ولذلك، لا ينبغي تصور إعادة بناء الفكر الديني على أساس الهياكل التقليدية، بل على أسس القوانين الاجتماعية والطبيعية للكون.
والمفكرون المسلمون سبقوا الغربيين في ذلك، فقد تصور ابن مسكويه التطور البيولوجي، ودعا ابن رشد للعقلانية، ورأى ابن خلدون أن جميع جوانب الوجود، طبيعية كانت أو اجتماعية، خاضعة لقوانين متسقة. إنها عبقرية عقول المسلمين التي حررتها رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
س) تجلت عبقرية إقبال في تركيزه على ظاهرة الغائية في الكون. وأن التاريخ يتحرك حتماً في اتجاه صاعد. وهذا من شأنه أن يفضي لعالم جديد أعلى.
ع) رفض إقبال الروحانية التي تقبل الأمر الواقع. هناك صلة عضوية بين الوعي الروحي والعدالة الاجتماعية، والدعوة لتحرير الشعوب المضطهدة. يقول في إشارة للرسالة الإسلامية:
هل جاءكم نبأ العقيدة عندما خـــرت لها الأيام للأذقان
ومحت من الدنيا الخوارق بعدما محت الفوارق فطرة الإنسان
ف) يؤيد إقبال كلاً من العقلانية والصوفية؛ ويرى كليهما من مكونات الصفات الإنسانية. وقد خلق فكره في هذا الصدد، وعياً بنّاءً عابراً للثقافات بين العقلانيين المسلمين والغربيين، وبين صوفية المسلمين ومتصوفة الغرب. وهو يرى هنا أنه لا يوجد شيء بشري غريب عليه. وأن قلب الإنسان هو مصدر التنوير. تقول القصيدة:
قلبك الشمس فاقتبس النور منه كل ما ترتجيه نفسك عندك
هذه النزعة الإنسانية موجودة بشكل أكبر لدى الرومي الذي يعتبره إقبال أستاذه. والرومي الذي يعد قائد النهج الصوفي في الشعر الإسلامي رفض احتكار الخلاص، ورفض قبول الحيازة الوحيدة للحقيقة. ودعا لأخوة جميع الأديان من أجل تكريم ودعم الأخوة البشرية. يرى إقبال في هذا الموقف جواز مرور المسلم لنادي الحضارة الإنسانية. فليس هناك مكان في هذا العالم الجديد لمن لا يؤمن بالإنسانية ولمن يرفض الأخوة البشرية. ينبغي أن تزال كل الحواجز لتتآخى الأديان، وتتآزر الأيديولوجيات، ولا يطغى جيل على آخر، ولا يكون هناك مكان لتفوق الذكور على الإناث، ولا يظل من عبد وسيد.
ص) في قصيدة جميلة جداً، يعبر إقبال عن مفهومه للإنسانية الإسلامية:
إنما العالم طراً معبد كل من أحسن فيه يعبد
كل من أدلى بقول طيب ينبت الغيث كغيث صيب
كل من أحسن يوماً عملاً كل من أحيا مواتاً هملا
كل من في أرضه قد زرعا ليغيث العرب والعجم معا
كل من يغرس مخضر الشجر فيه للإنسان ظل وشجر
كل من ينبط بئرا في السبيل تنفع الظمآن من حر الغليل
كل من يبني بناء حسنا كل من في صنعه قد أتقنا
كل من أحدث علما للبشر ينفع الناس ولم يقصد لشر
كل من في دهره قد أجملا فكرة أو قولة أو عملا
كلهم لله نعم العابد كلهم للخير نعم القاصد
ق) أفكار إقبال، وآراؤه حول إعادة بناء الفكر الديني، ودوره كمسلم ملتزم تجرأ بتحدي البناءات التقليدية، وكونه رابطاً بين العقلانية والصوفية، وبين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، وبين الثقافة العربية و الثقافات الهندية والفارسية؛ كلها من مظاهر إرثه.
وسوف أشير لتأثير أفكاره على إعادة البناء في القسم الثالث من هذه الورقة، ولكني في نهاية هذا القسم أود أن أشير إلى بعض أفكاره، التي أراها ضلت الطريق:
• أشار بإيجابية لأفكار نيتشة الفلسفية. هذا الفيلسوف كان مفكراً ذكياً جداً أهدر جهوده في حملة إلحادية تجاوزت العقلانية لتعلن موت الله. وبعكس توقعاته، زادت الأصولية الدينية في جميع الأديان. وقد ألهمت تكهناته شكلاً من العقيدة العلمانية الخطيرة: أيديولوجية علمانية ألهمت الاستعلاء ومن ثم النزاعات التي تلت. لقد كانت خيال عقل مريض، وما كان ينبغي لها أن تجد قبولاً لدى مطامح إقبال البناءة.
• أعرب عن إعجابه بمصطفى كمال. هذا السياسي شجعته نجاحاته العسكرية وانحطاط تركيا العثمانية لتبني شكل من أشكال العلمانية اللا دينية. وقد كان لأيدولوجيته وبرنامجه أثر مدمر بوضعه للتنمية في مقابل الهوية. فكان لإصلاحاته رد فعل مضاد في تركيا، ورد فعل متطرف في الاتجاه المعاكس في العالم الإسلامي. إن تطبيق أساليب العسكرية في الأيديولوجيا والسياسة يأتي حتماً بنتائج عكسية.
• يمكن فهم تعاطفه مع الماركسية واللينينية في سياق مظالم الرأسمالية، والقمع في روسيا القيصرية. ولكن بالنسبة لمثقف كإقبال، كان ينبغي أن يرى العيوب الأساسية للماركسية. فكرة أن المادية هي أساس كل العلاقات الاجتماعية، وأن العمل هو العامل الوحيد للإنتاج؛ أخطاء أساسية. إن تطورات الرأسمالية عبر العملية الديمقراطية قد دفعت الرأسمالية نحو دولة الرفاهية، ونمو قوى موازنة في المجتمع الرأسمالي. ويمكن تقدير اللينينية كردة فعل على الاستبداد الإقطاعي الروسي. لكنها وضعت بذور الستالينية. لقد تملكني إحساس بأن إقبال كان من فرط اشمئزازه من الأمر الواقع السائد يرحب بشكل عشوائي بأي تغيير جذري لإحلاله. ولا يمكن عذر مفكر في قامته على ذلك.
القسم الثالث: أهميته للإسلام والعالم
سوف أناقش هنا أهمية إقبال للعالم الإسلامي المعاصر وللنظام الدولي:
1 – صدم إقبال للغاية بالمفارقة بين ماض مجيد وحاضر بائس. وقد عكس في كلمات الشيطان التي تخيلها كم من البؤس المخبوء للعالم الإسلامي، وأن تدميره النهائي سوف يأتي من الداخل.
لقد حاول العديد من المفكرين السعي للمصالحة بين الطوائف الإسلامية، ولهندسة التوفيق بين عالم الإسلام والحضارة الحديثة.
يحتاج عالم الإسلام اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة بناء الفكر الديني لهندسة التوفيق بين الهوية والحداثة، وللتغلب على الاستقطابات الطائفية المقسّمة.
وعلى الصعيد الدولي، فإن عوامل عديدة مثل ثورات المعلومات والاتصالات تدعو للعولمة، بينما يدفع التنوع الثقافي، والمصالح الاقتصادية، والطموحات السياسية، في اتجاه مغاير.
2. هناك عوامل عديدة تعيق الإصلاح. وفيما يلي أهمها:
أ) الثورة الكمالية في تركيا ببرامجها المناهضة للإسلام تجاوزت استبدال العثمانيين إلى استبدال الإسلام، ما شجع على موقف علماني مماثل في مناطق عديدة. اتخذ رد الفعل إسلامي أشكالا عديدة، ما أسفر عن استقطاب أيديولوجي حاد.
ب) كان شاه إيران نسخة كمالية إيرانية مع الفارق. والفرق هو أنه صار واجهة للمصالح الإمبريالية. إيران العميقة الالتزام بالشيعية نظمت ثورة إسلامية معادية للإمبريالية، ما أشعل طموحات الشيعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي.
ج) المناطق السنية خشيت انتشار الثورة من إيران، واستعدت لمواجهتها. تركز الاستقطاب بين إيران والعراق، ثم بين إيران والمملكة العربية السعودية. وصارت الدولتان آيتين للمواقف الطائفية المتعاكسة.
د) زادت المصالح النفطية وحماية إسرائيل من دوافع التدخل في منطقة الشرق الأوسط. صار هذا التدخل سبباً للقاعدة في أفغانستان وباكستان، ولظهور داعش في العراق وسوريا. وهي تمثل شكلاً جديداً أكثر ضراوة من التطرف والإرهاب.
ه) إذن فالمنطقة الآن مقسمة بسبب:
– الصراعات الإسلامية، العلمانية.
– الصراعات الطائفية.
– الحركات المتطرفة والإرهابية.
– التدخل الأجنبي المباشر لتشكيل مستقبل الإقليم.
وفي توصيف إقبال لنبوءة الشيطان، فإن منطقة الشرق الأوسط الكبير أكثر من أي وقت مضى منقسمة ومنغمسة بشدة في حروب فعلية أو محتملة.
إن إعادة بناء الفكر الديني ضرورية أكثر من أي وقت مضى، ولكن الوضع الحالي يجعلها أكثر من أي وقت مضى مستحيلة. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. لذلك يجب أن ننخرط بجدية في تفريخ أفكار إقبال وزمرته من العاملين لإعادة البناء، لرسم خارطة طريق للنهضة الحتمية.
أقول حتمية لأن البشرية كلها سوف تستفيد منها وليس فقط المسلمين.
أقول ذلك لتسعة أسباب:
(1) القرآن هو كتاب الوحي الوحيد ذو النص المعتمد.
(2) عقيدتنا هي الوحيدة التي تعترف بالبشر لآدميتهم، وتكرمهم.
(3) إنها عقيدة فريدة في قبولها تعدد الأديان والثقافات والمصالح الوطنية.
(4) إنها تعترف بجميع مصادر المعرفة: الوحي والإلهام والعقل والتجربة.
(5) أنها تضع العدالة الاجتماعية في مقام الإيمان بالله.
(6) أنها تعترف بولاية العقل في كل الظواهر الطبيعية.
(7) أن نبيها كامل الإنسانية وسيرته خاضعة للظواهر الطبيعية.
(8) أنها تحدد أساساً عقلانياً للأخلاق.
(9) أنها تتخذ موقفاً إيجابياً إزاء حماية البيئة.
هذه الميزات تجعل الإسلام متسقاً مع تطور المجتمع البشري، ولو قبلت فإنها تعطي مجال التطور الإنساني الجديد هذا جذوراً أخلاقية وروحية.
إن سؤال التوفيق بين عالمي الطبيعة وما ورائها حتمي. والإسلام يعطي الجواب.
أخيراً، لترقد روح إقبال في سلام. وبرغم أنه قد توجد تحفظات على بعض أفكاره، فإن روح أفكاره سوف تبقى، خاصة في الوقت الذي صارت فيه الأجندات السنية والشيعية والعلمانية بما لحق بها من غلو آفة الأمة، غذت التطرف، وأوقدت الإرهاب، وأتاحت سبلاً للتدخل الأجنبي العدائي.
* ملحوظة: القصائد المقتبسة هنا مأخوذة من الترجمات العربية التي نقلها الصديق الدكتور محمد حبش، وقد أمدني بنسخة من دراسة لم تنشر بعد أعدها عن إقبال.
* قدمت الورقة باللغة الإنجليزية وقام المكتب الخاص للإمام الصادق المهدي بترجمتها إلى اللغة العربية.
طالع الورقة باللغة النجليزية