يقول الشاعر محمد سعيد العباسى في قصيدته المقصورة:
مصر وما مصر سوى الشمس التي بهرت بثاق نورها كل الوري
وقد سعيت لها وكنت كأنما أسعى لطيبة او الى ام القري
الى ان يقول:
والناس فيك اثنان شخص قد رأى حسنا فهام به وآخر لا يري
فالسر عند الله جل جلاله سوى به الأعمى وسوى المبصرا
أريق مداد كثير حول الحديث عن خصوصية العلاقات المصرية السودانية دون ان يؤدى ذلك الى اي انفراج فى العلاقات الثنائية، او تمتينها بما يخدم القضايا المشتركة. يتحدث المسؤولون عن التاريخ المشترك والنضال المشترك والمصير المشترك والعدو المشترك، وكل تلك الصفات المشتركة فى غالبها لا تشير الى ماهية هذه القضايا. لا علم لنا بهذا التاريخ المشترك غير بعض الغزوات التي تأتي من اي الجهتين، ولا نعلم شيئا عن النضال المشترك الذى خاضه البلدان وضد من، وأي مصير مشترك يربط بينهما سواء فى الماضي او الحاضر ودعك من المستقبل المجهول!
فى تقديرى ان أزلية هذه العلاقات مفهوم فارغ المحتوي وذلك لان تفسيرها عند كلا البلدين يختلف جذريا عندهما. من المؤكد ان الذي يحدد علاقات الدول هو مصالحها الذاتية المحضة وليس اى عامل اخر. وبالتالي تري مصر ان مصالحها فى السودان تتلخص في أشياء محددة ليس من بينها سعادة شعب السودان او أمنه. في المقابل لا يسعى السودان ان يرى مصر آمنة ومتطورة على حسابه. تود مصر ان تحقق أهدافا معينة من خلال تعاملها وخططها فى السودان يمكن إيجاز أهمها فى الآتي:
١- مصر هبة النيل، عليه لابد من ضمان وصول مياهه الى أراضيها بكل السبل ان حربا او سلما،
٢- مصر مستهدفة من الخارج ولابد من تأمينها بسد الثغرات بكل الطرق لكيلا يؤتى الحذر من مكمنه
٣- مصر دولة لديها قاعدة صناعية متطورة مقارنة بالسودان ومن الواجب الحرص على أسواقه خالصة لبضائعها
٤- مصر فى حوجة ماسة لبعض السلع التي يمكن تأمينها بسهولة وبارخص الأسعار من السودان كالمنتجات الحيوانية.
٥- مصر مقبلة على زيادة كبيرة فى سكانها ومن غير المستبعد حدوث انفجار سكاني فيها الامر الذى يتطلب التحسب باعتبار ان التمدد جنوبا هو الحل المنطقى الوحيد.
٦- مصر تعتقد انها دولة هامة بالمنطقة وان لها رسالة كبري فى استقرارها وان ذلك مستمد من تاريخها البعيد والحديث وان على السودان ان يبقى تحت عباءتها لضمان المزيد من الهيمنة على الموقف الريادي المتقدم لها، وبالتالي
عليه من واجبها الإبقاء على قواتها المسلحة بقدر كبير من الكفاءة والمقدرة.
٧- مصر ترى ان من مصلحتها ان يبقى السودان، والدول الاخرى المحاددة، ضعيفة قدر الإمكان وإلا فلتعمد الى إضعافها.
من المفيد ان نشير هنا ان مصر لم تكن راضية منذ الفترة الانتقالية الاولى بالتوجه الديموقراطي فى السودان اذ انها لم تكن لتجد بجوارها بلدا ديموقراطيا فى الوقت الذى تعيش نفسها تحت الحكم العسكري. لا ننسى ان مصر نجحت فى ان تجهض التجربة السودانية فى الحكم عدة مرات كان اخرها احتفاوءهم بانقلاب الاخوان المسلمين على النظام الديمقراطى عام ١٩٨٩!!
على الجانب الاخر لا بد من ان نشير الى ان للسودان مأخذ على مصر غير ما أشرت اليه آنفا ومنها:
١- الاحتلال الواقع على مثلث حلايب ونتوء وادى حلفا وسياسة التمصير المستمرة فى المنطقتين.
٢- الإصرار المصري على تنفيذ اتفاقية مياه النيل لعام ١٩٥٩ بحذافيرها دون الالتفات الى المتغيرات التى طالت التطور التقنى فى الزراعة وحاجة السودان للمزيد من المياه للتوسع الزراعى من اجل التنمية.
٣- سعى مصر دوما على التامر على الأنظمة الديموقراطية فى السودان اما من خلال إذنابها او عن طريق تشويه صورتها إعلاميا وأدبيا. ويكفى ان نذكر فى هذه العجالة ان مصر كانت على الدوام حفية بكل الانقلابات العسكرية التى أطاحت بالأنظمة الديمقراطية. الأنظمة العسكرية الثلاثة كانت أنظمة غير شرعية ورفض الشعب أصباغ الشرعية لها وانتهزت مصر حالة فقدان الأنظمة الثلاثة للشرعية وبالتالي ضعفها الداخلى وسعت الى تركيز مصالحها مثل اتفاقية مياه النيل لعام ١٩٥٩ فى فترة عبود، ثم اتفاقيات التكامل المختلفة على عهد نميرى، ثم احتلال مثلث حلايب ونتوء وادى حلفا على عهدنا هذا الأخرق.
٤- محاولات مصر إيهام الدول التى يتعامل معها السودان بان فى مقدورها التأثير على السودان لاتخاذ المواقف التى ترضى هذه الدولة او تلك، او الإيحاء بان السودان يدور فى فلك مصر، او انها دولة إمعة!!
٥- امتعاض مصر من اي محاولة سودانية للتوجه شرقا نحو اثيوبيا وكينيا وجنوب السودان او غربا نحو شاد ونيجريا ودول الغرب الافريقى او جنوبا نحو يوغندا والكونغو وحتى جنوب افريقيا.
العلاقات الثنائية والمتغيرات الإقليمية والدولية:
يمكن القول ان النظامين القائمين حاليا فى البلدين يشتركان فى أنهما من اضعف الأنظمة التي مرت عليهما فى الفترة السابقة، اذ أنهما يفتقران الى الشرعية ويصنفان بأنهما نظامان عسكريان ديكتاتوريان يقفان على ارض رخوة رغم ادعاء القيادتين فيهما بعكس ذلك. افقد هذا العامل البلدين الكثير من التأثير السياسى والعسكري، بالاضافة الى الاقتصادى، فى المنطقة وبالتالي فى العالم. خرجت مصر كعامل مؤثر فى القضايا العربية وبدأت القيادة فيها التشبث بالعباءة السعودية بعد تردد ورفض للمشاركة فيما تقوم به السعودية من دور مشكوك فى النجاح من خلال التحالف العربى لاستعادة الشرعية فى اليمن والتحالف الإسلامى لمكافحة الإرهاب. يتأرجح الدور المصري بين الموقف الروسى والأمريكي فيما يتعلق بالأزمة السورية، وبدا للمراقب ان الدول الكبيرة غير العربية بالمنطقة، وهي ايران وتركيا وإسرائيل، ستبقى اللاعبين الاساسيين فى تحديد كفة اي من المخططين الأمريكى والروسى.
اما السودان ففى الاعتقاد انه سيبقى داخل التحالف السعودى الخليجي من خلال التحالفين العربى والاسلامى، عليه لن يبقى له اى دور يلعبه سواء على المستوى الثنائي او الجماعى فى المنطقة العربية. من الواضح للعيان ان مصر بدأت تتوجس من تقارب السودان مع السعودية والدول الخليجية لاعتبارات مفهومة أقلها ذهاب السودان بعيدا عنها سياسيا وأمنيا واستراتيجيا واقتصاديا وذلك من خلال تركيز الدول الخليجية على الاستثمار الزراعى فى شمال السودان والذى كانت تعده مصر البقعة التي ستمتص الانفجار السكانى فيها.
سيساعد التحرك فى الاتجاهات الثلاثة الاخرى السودان فى بناء سياساته القومية التنموية والاستراتيجية والفكرية بمعزل عن التأثير والهيمنة والتطاول المصري. يجب الا نغفل الدور الذى يمكن ان تلعبه اثيوبيا في التكامل فى شتى المجالات بما فيها المجال الأمني والمائي والعسكرى. وفى نفس الوقت يمكننا ان نوظف علاقاتنا مع الدول الافريقية الاخري فى استعادة الاراضي التى فقدناها على الساحة الدولية جراء التخبط الذى سارت عليه العلاقات الخارجية منذ الانقلاب الاخوانى العسكري. بالاضافة الى فتح أسواق جديدة للمنتجات السودانية من خلال اتفاقيات السوق الافريقية المشتركة. يقينى ان توجهنا شمالا فى فترة القرون الخمسة الاخيرة افقدنا ميزة كان بالإمكان الاعتزاز بها فى المجالات الفكرية والثقافية والأدبية وغيرها. من المفيد ان نترك جانبا التقوقع الذى أدخلنا أنفسنا فيه والتحرك فى الاتجاهات الثلاثة الاخرى.
خلاصة للقول:
ارى ان حصر علاقاتنا بمصر باعتبارها الشقيقة الكبري وإعطاءها دورا كبيرا وإلادعاء الا غنى للدولتين عن الاخري يضر كثيراً بمصالحنا القومية ويكبل تحركنا إقليميا وقاريا وعالميا. والرأي عندى ان نفك من هذا الإسار مع الاعتراف بالمصالح المشتركة والقابلة للأخذ والرد دون ان نصبغ عليها قدسية لا تستحقها وخطأ احمر لا يجوز تجاوزه. وفى تقديرى ان العودة للأوضاع الطبيعية فى علاقات البلدين تحتم اولا قبول مصر التحكيم الدولى فيما يتعلق بقضيتى مثلث حلايب ونتوء وادى حلفا، ومن ثم مراجعة اتفاقية مياه النيل لعام ١٩٥٩ بالقدر الذى تعترف فيه مصر بازدياد حاجة السودان للمزيد من المياه بعد التزايد الواضح بعد تزايد الرقعة الزراعية فيه.
كل ذلك لا يتأتى الا بعد الاعتراف من قبل مصر بان للسودان حقاً فى ان ينتهج السياسة التى ترضى طموحاته وتأمين مصالحها القومية بمعزل عن مصالح مصر خاصة فى مجال الأمن المائي والتنموي والاستراتيجي، وان تكف مصر عن تفسير اي خطوة يقدم عليها السودان متعارض مع التوجه المصري بانه عداء لها. عند اعتراف مصر بالندية وتضارب مصالح البلدين فى بعض الأمور سيحقق لنا ان نردد الأبيات المنسوبة للشاعر العباسى والتي افتتحت بها هذا المقال.
إعداد / ابراهيم طه أيوب