بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام الصادق المهدي
2/12/2016م
مقدمة:
طاف مراسل للنيويورك تايمز عالمياً، وبعد ذلك كتب تقريراً جاء فيه: “لم أجد في رحلاتي عالماً أكثر ركوداً من العالم العربي. ومن طول عهود الطغيان في دوله، عهود برع قادتها في استغلال خطة “فرق تسد”، ما رسخ التباينات والعصبيات فلما أزيح الطاغية ظهرت تلك العصبيات، وأثناء حكمهم منعوا التطور السياسي وقفلوا قنواته”.
وعلى نفس المنوال قال رالف بيترز: “ينبغي أن نعتبر البلدان العربية من سكان العالم الإسلامي شعوباً عاجزة عن التحول البناء”.
وفي عام 2002م صدر تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عن التنمية البشرية في العالم العربي جاء فيه: “إن موجة الديمقراطية التي عمت بلدان أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، وبلدان شرق ووسط آسيا في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، لم تبلغ العالم العربي؛ وهو عالم تسيطر على الدول فيه سلطة تنفيذية تهيمن على كافة السلطات الأخرى، بلا ضوابط ولا مساءلة. والديمقراطية النيابية إن وجدت في الدولة فهي ليست دائماً حقيقية، وغالباً تلجم حرية التعبير والتنظيم في المجتمع، وما تزال الاستفادة من قدرات المرأة العربية من خلال المشاركة السياسية والاقتصادية هي الأقل في العالم كله”.
هذه القراءات عبر عنها المبدعون في أنات مجروحين أذكر منه:
عبارات أمل دنقل الشاعر المصري:
لا تحلُموا بعالَمٍ سعيدْ
فخلْفَ كلِّ قيصرٍ يموتُ قيصرٌ جديدْ
وعالم عباس الشاعر السوداني:
هل التي تعممت أرجلنا؟
أم رؤوسنا اتخذت أحذية؟
القميص ما نلبس أم كفن؟
وطن..وطن. كان لنا وطن!
وغازي قصيبي الشاعر السعودي:
يا سيدي المخترع العظيم
يا من صنعت بلسماً
قضى على مواجع الكهولة
وأنقذ الفحولة
أما لديك بلسم يعيد في أمتنا الرجولة؟
ومقولة أحمد مطر الشاعر ا لعراقي:
رُسُلُ التَّخلُّفِ في بلادِ الضّادِ
يستنكرون «خلافة البغدادي»
فعلام يأنفُ لاعبٌ من لاعبٍ
وكلاهُما عضوٌ بنفس النادي؟!
والشاعر المصري مصطفى الجزار:
كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة
فعـيـونُ عبلــةَ أصبحَتْ مُستعمَــرَه
لا تـرجُ بسمـةَ ثغرِها يومـاً، فقــدْ
سقـطَت مـن العِقدِ الثمـينِ الجوهـرة
واخفِضْ جَنَاحَ الخِزْيِ وارجُ المعذرة!
هكذا فإن صيحات البؤس واليأس والشكوى من التردي لا تعد ولا تحصى.
لماذا هذا التردي؟
محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة غير المسلمين هو الأول في تاريخ الإنسانية، والقرآن هو الأوثق بين الكتب المقدسة، والإسلام هو الأنجح بين الرسالات، وفي عصر المجد تقدم أهله على العالم المعمور لمدة ألف عام (700 إلى 1700م)، ويعترف الغربيون أن حضارة الإسلام هي التي أيقظتهم من سبات عصورهم الوسطى المظلمة.
ولكن عوامل معينة هبطت بهذا العالم إلى حالة تقبل الاحتلال الأجنبي. ثم الآن لحالة الأفول المشاهدة.
العوامل الثمانية الآتي بيانها هي أسباب التردي:
العامل الأول: صورة الإنسان تؤكد أن له عطاء لأنه ينفرد بين الكائنات بأربع خصال هي: العقل، والإلهام، والمعرفة التجريبية، وحرية الاختيار. هذا الاستعداد لعطاء الإنسان تراكمت عوامل لإهداره لصالح نصوص وتقاليد نقلية:
العلمُ ما كانَ فيه قال حدثنا وَمَا سِوى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
العامل الثاني: التعامل التقليدي مع الفقه المنقول بصورة اعتمدت الفقه الصوري أساساً جعل تقليد استنباطات الأقدمين هي الدين كما جاء في جوهرة التوحيد:
ومالـك وسائر الأئمّـة وأبـــو القاسم هداة
فواجب تقليد حَبْرٍ منهم كذا قضى القـوم بلفظٍ يُفْهَم .
العامل الثالث: ترسيخ الفتنة الكبرى منذ مقتل عثمان رضي الله عنه ثم واقعة الجمل ثم واقعة صفين، ما غرس انقساماً قدسوه بين روافض ونواصب ما جعل الأمة في حالة حرب باردة وأحياناً ساخنة دائمة.
العامل الرابع: جعل ولاية الأمر شأناً مقدساً مرتبطاً بالتغلب على حد تعبير ابن حجر العسقلاني: “أجمع الفقهاء على طاعة المتغلب والقتال معه”. إنها سنة غرسها مؤسس الحكم الأموي عندما أخذ البيعة قسراً لابنه يزيد وأحاط نهجه بالقدسية على نحو مقولته: “لو لم يرني ربي أهلاً لهذا الأمر ما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره”.
العامل الخامس: الظلم الاجتماعي. ومع أن ولفرد سميث قال “إن الرسالة الإسلامية أعظم مشروع في التاريخ لبسط العدالة الاجتماعية”، فإن واقع أمتنا حتى يومنا هذا في ذيل العالم من حيث التفاوت الطبقي، وغياب العدالة الاجتماعية. تتفاوت نسب هذا التفاوت بين البلدان ولكن غياب العدالة الاجتماعية عام. كريدي سويس قدر الموقف في مصر في عام 2016م بأن 10% من السكان يسيطرون على 73% من الثروة. وفي كل البلدان العربية نسبة الفقر عالية وكذلك نسبة العطالة لا سيما بين الشباب. إنه موقف يصدق عليه قول علي عليه السلام: “مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ “.
عيب التنمية في بلداننا هو أن ما حدث من زيادة في الثروة وفي الدخل القومي صحبه عيبان هما: مزيد من التبعية للخارج ومزيد من سوء توزيع الثروة طبقياً.
العامل السادس: التعامل مع الوافد من الحضارة الغربية اتخذ شكلين كلاهما ضار ويمثل مقولة ابن مسعود إن للشيطان نزغتان هما الإفراط والتفريط ولا يبالي بأيهما ظفر.
إنهما: مقولة الذين اعتبروا أن تراثنا مكتفٍ بذاته وأية معارف أو وسائل لم تعرف في عهد الصحابة بدعاً مرفوضة. وأن الولاء والبراء لا يتطلب مجرد أن غير المسلمين كفار بل يتطلب معاداة الأمم غير المسلمين كواجب ديني يكفر من لا يلتزم به. ويدان كذلك كل وافدٍ من الغرب فالعلمانية وهي فكرة غربية فكرة خبيثة وعلى حد تعبير يوسف العييري: “الديمقراطية هي أخبث إفرازات العلمانية لأنها تتناقض مع قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) . وهي تقول إن الحكم للشعب”. هذه رؤية الإفراط.
أما رؤية التفريط فقد جهر بها كثيرون أشهرهم د. طه حسين إذ قال: “علينا أن نقبل الغرب بخيره وشره لأنه يمثل مستقبل الإنسانية”. لهذا الرأي أصداؤه في كثير من البلدان كالهند، وتركيا الكمالية. وهو كذلك جزء من نظرة فلسفية أسسها ديفيد هيوم إذ قال: “لا معنى لأية عبارة لا يمكن التحري عن صحتها بل ينبغي أن يقذف بها في سلة المهملات”. هذه فكرة الفلسفة المنطقية الوضعية التي تبناها د. زكي نجيب محمود. (كلاهما أي طه حسين وزكي نجيب محمود راجعا موقفيهما في أخريات أيامهما).
الموقفان المتناقضان: الأول يمثل استقالة من التطور التاريخي. والثاني يمثل استقالة من الذات.
العامل السابع: تعامل أكثر دول المنطقة مع الولايات المتحدة قام على أساس معيب هو أن تحمي الولايات المتحدة سيطرتها على شعوبها، على حساب حقوق تلك الشعوب كما اعترفت السيدة كونداليزا رايس في القاهرة في عام 2005م: “إننا لمدة 60 عاماً أهملنا حقوق شعوب المنطقة في الديمقراطية لصالح الاستقرار ولم نحققه”.
العلاقة مع الولايات المتحدة صارت لكثير من دول المنطقة حجر الزاوية في أمنها القومي. هذا مع أن الولايات المتحدة لم تتخل عن بسط حمايتها لغزوات إسرائيل واعتبرت أن الأساس الثاني لسياستها الهيمنة على صناعة النفط.
أما الالتزام بحماية إسرائيل كما تقررها القيادة الإسرائيلية فقد وثقها الأستاذان جون مير شايمر وستيفن والت في كتابهما عن اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية. أما موضوع النفط فقد جاء في كلية الدراسات العليا في جامعة هارفارد الأمريكية مقولة: “إن السيطرة على سعر النفط وكمية إنتاجه هما ركيزتا الأمن القومي الأمريكي”. وأكد هذا المعنى الشيخ حمد بن جاسم (رئيس وزراء قطر السابق) في مقابلة نشرت في الفايننشال تايمز في 15/4/2016م إذ قال: “لم تكن علاقاتنا مع أمريكا أبداً متوازنة لمدة 30 عاماً قامت خلالها منطقة الخليج بقيادة السعودية بالمحافظة على أسعار النفط كما يريدون”.
نتيجة لهذه العوامل لم تتمكن دول المنطقة غالباً أن تكون الدولة الوطنية، بل تكونت في المنطقة العربية دولٌ هشة لا تحظى بصفة الدولة الوطنية الحديثة. فالدول الملكية والجمهورية في الحالتين اعتمدت على حكم الفرد المسنود إما بعشيرة قبلية أو بعشيرة عسكرية. إن هشاشة دول المنطقة هي التي جعلتها عرضة لثورات الربيع العربي، أو لمغامرات الغلاة، أو للتدخلات الأجنبية.
وفي 29/11/2016م نشرت الأمم المتحدة تقريراً جاء فيه: إنه بعد خمس سنوات من الربيع العربي فإن الأنظمة العربية ما زالت أكثر طغياناً وشدة على أصحاب الرأي الآخر. وما زالت أقل اهتماماً بأسباب هذا التخلف السياسي.
التقرير يتوقع أن تستمر دول المنطقة العربية في اضطرابها بحيث يتوقع أن يعيش ثلاثة أشخاص من كل أربعة في المنطقة العربية في بلاد تسودها اضطرابات في عام 2020م.
الحالة الآن مزعجة:
• 68/% من الوفيات نتيجة للاقتتال تقع في العالم العربي.
• 47% من النازحين داخل أوطانهم في العالم العربي.
• 58% من اللاجئين خارج أوطانهم كذلك.
هذا الدمار ترتكبه قوات عربية مستمدين دوافع العداء من أفكار مستوردة من الخارج أو من الماضي. إنها حروب لا يرجى لأحد أطرافها أن ينتصر. هذا وبين الحكام والشعوب توتر لعدم وجود مشاركة سياسية حقيقية ووجود حرمان اجتماعي كبير فنسبة الشباب في السكان تبلغ 60% ونسبة العطالة بين الشباب تبلغ 30% ونسبة الفقر بين السكان عالية. والجديد أن الشباب الآن أكثر ثقافة وأوسع اتصالاً بالعالم الخارجي وأكثر اتصالاً فيما بينهم بسبب وسائل التواصل الاجتماعي.
استمرار هذه الظروف يشكل ألغاماً قابلة للانفجار باستمرار .
هذه الظروف المفصلة هنا تشكل حيثيات احتضار على نحو مقولة ما يكل هايدن رئيس جهاز المخابرات المركزية الأمريكية السابق كما روت صحيفة الموجز في 29/2/2016م فإنه تحدث عن المستقبل الأسود للعرب.
قضية الإرهاب
ينبغي أن نفهم القاعدة وداعش وفروعهما على أساس أنهم إنما يريدون الإطاحة بالنظم الحالية لاستبدالها بنظم مستمدة من تجارب الماضي ويستخدمون الإرهاب وسيلة لذلك. إنها ثورة خوارج لبعث نظام الخلافة ولتطبيق حرفي لأحكام الشريعة الإسلامية كما يرونها.
• هذا النهج ينبغي أن يفهم في إطار الدوافع والحواضن المفسرة له فالتطلع لإحياء الخلافة موجود في أشواق كثير من المسلمين كذلك التطلع لتطبيق الشريعة كلاهما بصورة خالية من مراعاة مستجدات الزمان والمكان.
• لولا الغزو السوفيتي لأفغانستان ومطالب الحرب الباردة ما كانت القاعدة. القاعدة ضمن فصائل الجهاد الأفغانية حاربت الوجود السوفيتي بعقيدة قتالية جهادوية تحولت بعد نجاحها هناك لإجلاء الوجود الأمريكي من بلاد المسلمين.
وفي أفغانستان تحالفت القاعدة مع طالبان. إمارة طالبان وتطلع القاعدة للخلافة أهداف لها حواضن تراثية صالحة لتجنيد المقاتلين. الغرب لا سيما أمريكا وحلفاؤها من العرب قاموا بتدريب، وتمويل، وتسليح القاعدة بصورة غير مسبوقة لمنظمة أهلية.
ما ارتكبت القاعدة من هجمات، وحماية طالبان للقاعدة أدت إلى غزو أفغانستان واستهداف القاعدة عسكرياً. الحملة العسكرية ضد طالبان والقاعدة منذ 2001م لم تفلح في هزيمة طالبان ولا القاعدة.
بل طالبان الآن تهيمن على ثلث أفغانستان وتحاصر المدن الكبيرة هناك. والقاعدة التي كانت محصورة في الحدود الأفغانية الباكستانية صارت الآن أخطبوطاً متفرعاً بروافده وتحالفاته في شمال، وغرب، وشرق أفريقيا، وفي مناطق آسيوية، وفي المغرب العربي، وفي اليمن.
أن يتصدر حرب طالبان والقاعدة تحالف يقوده حلف ناتو مهما كلفهم ذلك من دماء ودمار، فإنه يمنحهم شرعية باعتبارهم حماة الأمة من الصليبية والصهيونية في نظر كثيرين في وقت فيه تتحالف دول في المنطقة معهم على حساب شرعيتها في نظر أولئك المؤيدين.
ورد في أكتوبر 2001م أن وكالة المخابرات الداخلية السعودية أمرت بإجراء استطلاع سري في صفوف الرجال السعوديين الذين تتراوح أعمارهم بين 25- 41 سنة حيث تبين أن 95% استحسنوا موقف بن لادن (مجلة نيوزويك 22/7/2002م ووردت نفس المعلومة في مجلة الأكونمست 2/2/2004م).
لقد تصدر هذه الحملة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش وكان لتصريحاته والوسائل التي اتبعها أثراً مفيداً لدعاية القاعدة ما جعل السير أيفور روبرتس سفير بريطانيا في إيطاليا آنذاك يقول: “إن بوش هو أكفأ ضابط تجنيد للقاعدة” (مجلة تايم في 18/1/2005م).
• داعش تطوير للقاعدة في أرض الرافدين. اندفعوا نحو تأسيس خلافة سنية نتيجة للاحتلال الأمريكي للعراق واعتبار كثير من أهل السنة في العراق أن النظام الجديد قد قام على حسابهم لذلك التف حول “الخلافة” السنية كثيرون من بعثيين وقوات مسلحة عراقية سرحها المحتلون، ومؤيدي الطريقة النقشنبدية وقبائل سنية.
المشهد الديني والسياسي في العراق وسوريا صار طائفياً واثنياً. إن القضاء على “الخلافة” بتحالف أجنبي يمنح داعش شرعية في نظر كثرين. ودور الحشد الشعبي “بأكثريته الشيعية”، ودور القوات الكردية في مهمة القضاء على “الخلافة” في الموصل والرقة سوف يحقق بما معهم من تحالف دولي نصراً عسكرياً ولكنه سوف يخلق تعقيدات كبيرة وتظلماً في أوساط العرب السنة. سوف تشتعل المواجهات الطائفية السنية الشيعية والاثنية العربية الكردية. والدور الأجنبي في المنطقة سوف يستغله الغلاة في الترويج لأجندتهم.
ففي فبراير 2002م في الرياض ألقيت محاضرة عن السلام في المنطقة وشروط التعامل العادل مع الأسرة الدولية. وكان الأستاذ محمد قطب من بين الحاضرين فعلق على حديثي قائلاً: يا أخي دعنا من حديث السلام والوفاق فإن الصليبية الصهيونية تستهدفان الإسلام وتركيع أهله. والمصير بيننا إلى مفاصلة حتمية، إن أفضل ما يفعل الأمريكان وإسرائيل هو أن يحتلوا بلداننا وأن يمارسوا على شعوبنا حماقاتهم لكي تستفز أفعالهم العملاق الإسلامي النائم ليهب من نومه ويهزم المعتدين ويسترد الدور الإسلامي العالمي.
ومن الملاحظات العميقة أن بعض المعلقين يقولون إن نجاح بن لادن الأكبر في مجال مقاصده ليس تفجير البرجين في نيويورك، بل في ردة الفعل التي قادها الرئيس الأمريكي السابق بوش في احتلال أفغانستان والعراق فقد أدى ذلك لزيادة الكراهية للمسلمين في أمريكا ولزيادة الكراهية للأمريكان في ديار المسلمين وهذا يناسب أجندة القاعدة.
إن ما مارسه الغلاة في أمريكا وأوروبا غذى انفعالات إسلاموفوبيا “كراهية الإسلام” وهي مع عوامل أخرى أنعشت اليمين المتطرف ما جعل رئيساً لدولة كبرى هي أمريكا يعين وزير دفاع ويزكيه بوصف شاع عنه أنه الكلب المسعور.
إن تطرف غلاة اليمين في الغرب وتطرف غلاة المسلمين وجهان لعملة واحدة ويغذيان بعضهما بعضاً.
في فبراير 2003م عندما اتضح أن أمريكا بصدد غزو العراق كتبت خطاباً للرئيس الأمريكي قلت له فيه: “لا شك أن الولايات المتحدة قادرة على إنزال هزيمة عسكرية على القوات العراقية . ومع أنني مبدئياً لست متعاطفاً مع القيادة العراقية ولكن حسب المعطيات التي أعرفها فإن النصر العسكري سوف تعقبه هزيمة سياسية أي أن غزو العراق سيحقق لكم عكس مقاصده ويسبب ما سوف يسبب من أذى للشعب العراقي. لذلك كف عن غزو العراق الذي أعارضه”. لم يستجب لما قلت وتحقق ما توقعت.
إن القوى الدولية تفهم توازن القوى العسكري. وتفهم الإحصاءات الاقتصادية ولكن المعطيات الدينية، والفكرية، والسياسية في بلداننا التي يمكن أن يلم بها علماؤهم غائبة عن وعي صناع القرار. لذلك يرتكبون كثيراً من الأخطاء التي تأتي بنتائج عكسية.
إن هشاشة كيانات الدولة الوطنية في العالم العربي. والإنهاك الذي تمثله تحديات ثورات الغلاة، والحروب الطائفية التي تستنزف طرفيها بلا إمكانية لانتصار أحدها، والتدخلات الدولية ذات البأس العسكري ولكن البؤس الفكري والسياسي عوامل تتحالف بوعي أو بغير وعي في سيناريو تدمير العالم العربي.
العدو الاستراتيجي للأمة لا سيما التحالف الصهيوني الإنجيلي يوظف هذه العوامل في أجندة الجيل الرابع للحروب أي هزيمة العدو “العربي” بفعل عيوبه الذاتية على نحو ما قال نزار قباني:
يا سادتي.. لم يدخل الأعداء من حدودنا
لكنهم تسربوا كالنمل.. من عيوبنا
مخاض لا احتضار
حركات ثورات الغلاة تعبر عن أشواق دفينة في كثير من النفوس، ويعبرون عن احتجاج على مظالم ماثلة، ويشدهم للقيام بما يمارسون هشاشة الدولة الوطنية الحالية، ويمنحهم الاعتماد في قمعهم على قوى غير مسلمة مزيداً من الشرعية في نظر كثير من الناس. ومهما تعرضوا له من خسائر على الصعيد العسكري فما دامت الدوافع التي حركتهم موجودة فإنهم سوف يغيرون أساليبهم من مرحلة لأخرى على نحو ما شهدنا في حالة طالبان التي انسحبت من العاصمة وواصلت خطتها بأسلوب آخر. وداعش هزمت دولتها الأولى في العراق في عام 2007م فأقامت التجربة الثانية الأكثر خطراً في 2014م أي “الخلافة” وفروعها من الإمارات. وإن هزمت “الخلافة” كما يتوقع مع استمرار الدوافع المذكورة فمن المتوقع الاستمرار بأساليب أخرى.
اندحار داعش في الموصل والرقة يمكن أن يؤدي لأنشطة بأسلوب جديد يركز على تهديد مؤسسات النفط والبنوك وتصعيد العداء مع الغرب. ويساعد على ذلك وسائل الإعلام الالكتروني في تربة اجتماعية خصبة للتمرد بما فيها من فوارق اجتماعية حادة وما فيها من تقديس أنماط ماضوية لا عقلانية.
وما يحيط بها من اقتتال طائفي مستمر دون أن يحسم أمراً ما يساعد على استقطاب فئة على أنها الفئة الناجية المكفرة للآخرين المخونة للآليات السياسية الحديثة.
إن واقع الدول العربية الحالي فيه قابلية لمشروعات الإطاحة تجذب ثورات الغلاة كما تجذب ثورات تقدمية مثل ثورات الربيع العربي.
ثورات الربيع العربي التي انطلقت قبل خمسة أعوم أحاطت بها إلا قليلاً حركات ثورة مضادة. والآلة الإعلامية الرسمية في كثير من البلدان عملت على تكوين جبهات عريضة ضد الإرهاب الذي تمثله ثورات الغلاة وكذلك حملات لشيطنة ثورات الربيع العربي باعتبارها طرقاً للخراب كما هو الحال في سوريا وليبيا. ويغيب عن هذه الدعايات أن هذا الخراب حيثما كان إنما قادت إليه تطاول عهود الطغيان فالعلاقة السببية ليست بين ثورات الربيع والخراب ولكن بين الطغيان والخراب.
حكم الطغاة هو الذي صنع القابلية للتمرد ضده لأنه أفقد المجتمعات المعنية المناعة وعند فقدان المناعة تزحف كل أساليب التحدي. القاعدة السوسيولوجية الراتبة هي: إذا وجد احتقان ولم يوجد مخرج “شرعي” منه فسوف تنشأ قوة جديدة تبشر ببديل قفزاً إلى الوراء أو إلى الأمام.
إن الذين يصرون على التسلط الأحادي ويمنعون تغييراً صار ضرورياً بالوسائل الناعمة يدفعون نحو التغيير بالوسائل الخشنة.
إن نقل الحالة العربية من التفسخ وحالة الاحتضار إلى التأهب لمخاض نحو آفاق جديدة يتطلب صحوة ذات سبع شعب هي:
الشعبة الأولى: صحوة فكرية تقوم على أساس أن الإنسان كائن فريد في الكون لأنه يملك ثلاث خصال تفسر تكريمه وتفرده، هي: العقل، والقبس الروحي، وحرية الاختيار. هذه خصال فطرية في الإنسان فإذا نفيت عنه بوسائل تحكمية تخصم من تكريمه وتفرده. إن الاعتقادات التي هيمنت على تراثنا ونفت قدرات الإنسان الروحية والعقلية وجعلته مجرد مستقبل لأحكام نقلية، ونفت عنه الحرية وجعلته مجرد مأمور للسلطان هي العوامل التي ألبست مجتمعاتنا قميص حديد فكري. الصحوة الفكرية توجب خلع هذا القميص ليسترد الإنسان قدراته العقلية وكذلك إشراقاته الوجدانية.
ليس صحيحاً أن المطالبة بالاعتراف بقدرات الإنسان وافدة لنا من حضارة الغرب وهي غريبة علينا. الحقيقة أنها موجودة في تراثنا فالإشادة بالعقل بل والأنشطة العقلية مورست ونص القرآن كثيراً على العقل، والتدبر، والبرهان. وكان للعطاء الروحي دور مهم على نحو ما روي عن مقابلة ابن سينا وأبي سعيد الفضل بن أبي الخير إذ تحاورا ثلاثة أيام ثم قال ابن سينا عن نتائج الحوار: “ما أعرفه يراه”. وقال أبو سعيد: “ما أراه يعرفه”. وفي هذا الصدد قال شاعر النيل حافظ إبراهيم:
أَيُّ شَيءٍ في الغَربِ قَد بَهَرَ الناسَ جَمالاً وَلَم يَكُن مِنهُ عِندي؟
وقال الشيخ المراغي: “قدموا لي أي شيء ينفع الناس وأنا أنبئكم بسنده من الشريعة الإسلامية”. إن الركود الفكري والتقليد الفقهي. والاستبداد غيبوا العقل. والشفافية الروحية والحرية.
الشعبة الثانية: الصحوة الفقهية:
الخلافة في الأصل شأن بشري. وعندما توفى النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليختاروا أميراً للمؤمنين وحدثت خلافات بنيهم وبين ممثلين للمهاجرين. واقترح بعض الأنصار: “منا أمير ومنكم أمير”. ولكن حسم الأمر بالأمر الواقع ما سماه عمر (رض) فلتة. وكان التداول كله على أن الأمر بشري وليس إلهياً.
هذه الصفة أبرزها أبو بكر (رض) في خطبته إذ قال: “وليت عليكم ولست بخيركم (ولاية بشرية)، الصدق أمانة والكذب خيانة (الشفافية)، إن أحسنت فأعينوني وأن أسأت فقوموني (المساءلة)، الضعيف منكم قوي حتى آخذ الحق له، والقوي منكم ضعيف حتى أرد الحق منه( سيادة حكم القانون)”.
إذن الخلافة شأن بشري وليست مؤسسة واجب ديني.
وحتى في أحسن صورها في العهد الأول فإن خلوها من مؤسسات جعلها سبب فتنة أدت إلى مقتل الخلفاء الأربعة الأوائل اغتيالاً، وصارت بعد ذلك أساس حروب قال عنها الشهرستاني: “ما سل في تاريخ الإسلام سيف أكثر من الاختلاف على الإمامة”. وقتل خمسة من خلفاء بني أمية و12 من خلفاء العباسيين. حالة وصفها الشاعر:
أنّى يكون وليس ذاك بكائن يرث الخلافة فاسق عن فاسق
ليس في تجربة الخلافة وما فيها من دمج السلطات واشتراط الأنساب ما يدفع نحو إحيائها. نعم هنالك مبادئ سياسية كالشورى، والعدالة، والإمارة مطلوبة للاجتماع البشري وهذه في ظروف زماننا الحالي يمكن تحقيقها عن طريق الدولة الوطنية الملتزمة بتلك المبادئ في دستورها، واتحاد المسلمين في دولة واحدة لم يستمر إلا 10% من تاريخ الأمة وفي العصر الحديث يمكن تحقيق وجه منه عن طريق كنفدرالي أو تعاهدي.
وفيما يتعلق بتطبيق الشريعة فإن للشريعة مقاصد جنائية لمعاقبة المجرمين، ومدنية للوفاء بالعهود، واجتماعية للكفاية والعدل، وشخصية لتنظيم العلاقة بين الرجال والنساء.
الأحكام التي استنبطت لتحقيق تلك المقاصد في الماضي متغيرة على نحو مقولة ابن القيم: “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان”. فالمقاصد هي الأهم على نحو قوله أيضاً: “كل ما تحقق به العدل هو من شرع الله وإن لم يرد به نص”. لذلك قال جلال الدين: “إن الشريعة كالشمعة توفر لنا نوراً. نوراً يساعدنا على الانتقال من مكان إلى آخر في الظلام ولا يليق بنا أن ننسى إلى أين نحن ذاهبون ونركز على الشمعة”. من هذا المنطلق أمكن تجاوز بعض النصوص لنفع مؤكد مثل إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم، وإلغاء الرق، وإلغاء ملك اليمين، وهلم جرا.
لذلك قال ابن القيم ينبغي أن نعرف الواجب اجتهاداً. والواقع إحاطة. ثم نزاوج بينهما. إن نصوص الوحي يدخل في أمرها التدبر، والبرهان العقلي، والمنفعة، والاستطاعة، والأولويات، والتدرج.
تطبيق الشريعة في العصر الحديث يتطلب هندسة تشريعية وافية تفتح الباب لاستصحاب أحكام نافعة ومستجدات لم تخطر ببال الأقدمين.
تطبيق الشريعة في عصرنا يتطلب حواراً وافياً بين مقاصدها والمستجدات التشريعية، وأية محاولة لتطبيقات على نحو ما فعلت طالبان، وداعش وأمثالهما من التطبيقات الانفعالية تأتي بنتائج عكسية للمقاصد. كما أن من أسوأ ما طرأ على مقولات بعض الدعاة القول بالحاكمية. باعتبار أن ولاية الأمر السياسي لرب العالمين. هذه ثيوقراطية يرفضها التوجيه النبوي. ولاية الأمر والمحاسبة عليها شأن بشري.
وفي هذا الصدد يستشهد هؤلاء بالآية: (وَمَنْ لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) . هذه متعلقة بحادثة اليهود الذين أخفوا حكم الزنا عندهم. ويحكم هنا بمعنى يفصل وليس إدارة الحكم. ومعنى كفر هنا بمعنى أنكر الحكم وليس إنكار الله. وفي هذا الأمر بالذات العقوبة في حكم الإسلام هي الجلد خلافاً لما في التوراة.
نقل ابن كثير عن البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس والحسن البصري أنها نزلت في أهل الكتاب ولا علاقة لها بالحكم بالمعنى السياسي. وقالوا (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) معناه أن الإمارة لله وبموجب هذا الفهم القاصر كفر الخوارج الإمام علي.
هذا التفسير للآية أحياه الشيخ المودودي إذ قال: الألوهية والسلطة تستلزمان بعضهما بعضاً. وكلمة الدين في القرآن تعني أن الحاكمية والسلطة العليا لله وتوجب الطاعة لتلك الحاكمية.
وهذا هو نفس المفهوم الذي قال به الأستاذ سيد قطب. قائلاً: الدين في المفهوم الإسلامي هو المرادف لكلمة النظام في المصطلحات الحديثة. هذا الاتجاه نقل أمراً بشرياً هو ولاية الأمر إلى كونه أمراً إلهياً تماماً مثل الإمامة لدى الشيعة الذين اعتبروا الإمامة تعييناً إلهياً.
إن ولاية الأمر مسؤولية بشرية اختياراً. ومساءلةً. وإعفاءً.
هذا النقل من شأن بشري لشأن إلهي هو الذي استشهد به معاوية بقوله: “لو لم يرني ربي أهلاً لهذا الأمر ما تركني وإياه”. القول بألوهية ولاية الأمر والقول بتطبيق الشريعة دون مراعاة الزمان والمكان والمقاصد أدخلا ضرراً كبيراً في حال المسلمين وضرر ثالث مثلهما هو الفهم العدواني للولاء والبراء.
اعتبر هؤلاء أن علة القتال في الإسلام هي اختلاف الملة، والصحيح أن علته هي العدوان. فاختلاف الملة عند هؤلاء علة لمعاداتهم وقتالهم. على المسلم في نظرهم ألا يرى كفرهم فحسب بل أن يعاديهم. فإن لم تفعل ذلك فأنت مرتد. والكافر والمرتد حتماً يقتلان.
إن 80% من سكان العالم غير مسلمين، وثلث المسلمين يعيشون أقليات مع أغلبيات غير مسلمة. اعتبار أن اختلاف الملة هو علة القتال وأن من لا يرى ذلك ويلتزم به مرتد عقائد فاسدة، والقول بها هو من باب إلقاء الأنفس للتهلكة.
الشعبة الثالثة: الصحوة الاجتماعية
الملاحظة العامة هي أن البلاد الإسلامية عامة والعربية خاصة تعاني شعوبها من استقطاب حاد بين فئة صغيرة ثرية وأغلبية فقيرة. ونسبة الفقر عالية للغاية كذلك نسبة العطالة لا سيما بين الشباب إذ تبلغ 30%، ضعف النسبة العالمية. الفوارق الطبقية هذه من أهم ما حذر منه القرآن ولكن العدالة الاجتماعية فريضة غائبة.
الوضع الحالي مع الفقر، والعطالة قنابل موقوتة توشك أن تنفجر، وقديماً استنكر حافظ إبراهيم هذه الظاهرة التي زادت مع الأيام إذ قال:
أصْلِحوا أنفُسَا أضرَّ بِهَا الفقْرُ وأحْيا بمَوتِها الآثاما
الظلم وحده لا يحرض على الانفجار، ولكن الشعور به هو المحرض. واليوم وسائل التواصل الاجتماعي صارت مصادر معلومات وأفكار ووسائل تعبئة ما يجعل البلاد العربية الأكثر حاجة لبرنامج للكفاية والعدل.
عالمان في جامعة واشنطن بأمريكا هما شهرزاد رحمان وحسين عسكري قدما اقتراح مقياس للأسلمة الاجتماعية. المقياس من 12 بنداً تتعلق بالتنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، وبحق الكافة في الموارد الطبيعية، وبإزالة الفقر، وبضبط الإسراف، وهلم جرا. وبعد تحديد المقاييس وبيان أصولها في نصوص الإسلام قدما تصنيفاً لـ 208 دولة في العالم على أساس التزامها بها.
النتيجة هي أن أكثر البلدان أسلمة اجتماعية هي آيرلندا، ثم النرويج، وغيرهما أما الدول الموصوفة بأنها إسلامية فقد كانت في مرتبة متدنية من مقياس الأسلمة هذا. أول دولة من دول المسلمين في هذا السلم هي رقم 33: ماليزيا.
المطلوب بإلحاح صحوة تنموية عدالية في الأقطار العربية، تستنهض كل قطر وتنفذ مشروع “مارشالي” فيما بينها للخروج من التخلف الاقتصادي والظلم الاجتماعي. مشروع التنمية والعدالة هذا ركن مهم في الانتقال من الاحتضار إلى الفجر الجديد.
الشعبة الرابعة: الوفاق الطائفي:
بعد واقعة صفين واستباب الأمر لمعاوية ثم العهد الأموي والعباسي لقي الشيعة اضطهاداً مستمراً، واستخرج معاوية لعهده مركزاً ربانياً مثلما فعل العباسيون ومقولة أبو جعفر المنصور “إنه ظل الله في الأرض”.
وفي المقابل تحلق الشيعة حول إمامة تسلسلت من الإمام علي ثم الإمامين الحسن والحسين ثم تسعة من نسل الإمام الحسين حتى آخرهم محمد الحسن العسكري.
لا يوجد أي نص معتمد من الكافة دعماً للخلافة الأموية ولا العباسية فهما عهدان قاما على الغلبة.
لا أحد يجادل في فضل الإمام علي الذي خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم: “يَا عَلِيُّ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟” ولا أحد يجادل في مكانة الحسن ولا الحسين لدى النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: “هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا” . ولكن لا توجد نصوص متفق عليها تدعم اختياراً إلهياً لأئمة الشيعة ولكن هنالك ما يفسر هذا الاعتقاد لربط ولاء الشيعة وما يفسر اختفاء الإمام الثاني عشر وانتظار عودته في مقبل الأيام مهدياً. هنالك نصوص في كتب الحديث السنية عن ظهور المهدي في آخر الزمان ولكنها مختلفة عن عقيدة الشيعة.
الثقافات الإنسانية فيها تطلع لمخلص يقيم الحق ويقهر الباطل.
يمكن لأحد أن يجادل أن عودة شخص بعد اختفائه بعد 14 قرناً ضد طبيعة الأشياء: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ* كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) . وأن يجادل بأنه في آخر الزمان: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ) .
ومع وجود ما يفسر التطلع للمخلص فلا توجد نصوص قطعية تبرر لأصحاب هذه العقيدة أو تلك أن يكفروا من يخالفهم في أمرها.
هذا معناه سيظل المسلمون مختلفين حول أحداث التاريخ وحول الأئمة وحول المهدية وهي اختلافات لا يمكن حسمها بالقوة ولا بالإقناع والسبيل الوحيد للتعامل معها هو الإرجاء على حد قوله تعالى: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) .
نحن جميعاً كتابنا واحد، ورسولنا واحد، واعتقادنا حول الثوابت القطعية واحد: التوحيد، والنبوة، والمعاد، والأركان الخمسة، ومكارم الأخلاق. ما عداها عقائد مختلف عليها علينا أن نتعاون فيما هو متفق عليه وأن نتعايش فيما هو مختلف عليه ونتخذ عهداً بنوده:
• الإمساك عن التكفير المتبادل.
• الالتزام بالاعتراف المتبادل.
• حرية الدعوة لبعضنا بعضاً بالتي هي أحسن.
• التخلي التام عن مراشقة روافض ونواصب.
• الاتفاق على موقف موحد من إسرائيل.
• كفالة حقوق إيمانية وحقوق مواطنة كاملة للشيعة في بلاد السنة وكذلك لأهل السنة في بلاد الشيعة، وهي على أية حال التزام واجب في منظومة حقوق الإنسان.
• مسألة المهدية مكان اختلاف فمراجع أهل السنة تروي عنها أحاديث كأبي داود ومراجع الشيعة تروي عنها أحاديث كالكافي. ولكنها في الحالين أحاديث مختلف على متنها وعلى معناها ولا تصلح أساساً للولاء والبراء لذلك ليعتقد من يشاء حولها دون أساس لتكفير غيره أو إلزامه بها. ولكن النبوة مستمرة في الأمة بموجب تكليفها بالرسالة وبموجب قوله تعالى: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) وقوله: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ) وفي هذا المجال يمكن أن يلهم الله من يشاء الهداية كقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) إنها وظيفة إحياء الدين التي يرجوها الجميع لا سيما في ظروف فساد الأحوال.
هذه المبادئ السبعة تصلح أساساً لتحرك عاجل لرتق الفتق السني الشيعي: المقدمة المطلوبة لاحتواء المواجهات الراهنة، والحروب التي تمزق الأمة حالياً، وتتيح الفرصة لتمدد الغلاة والغزاة لكي يكتبوا هم أجندة المصير.
الشعبة الخامسة: فك الاشتباك الفكري بين التيارات المهمة الإسلامية، والعلمانية، والقومية، وفي أفريقيا الأفريقانية.
كل محاولة لإقامة توجه فكري أو اعتقادي واحد معناه إلغاء الآخر ومعناه إقامة الطغيان.
التنوع من مقاصد الكون، وكذلك حتمية الاختلاف. قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) .
التنوع يتعايش ما لم تدخل فيه العصبية. هنالك مفاهيم علمانية نافية للآخر تتطلب المراجعة. قال بيتر بيرقر أحد مؤسسي مدرسة العلمانية “العلمانية ليست شرطاً للديمقراطية فقد شقيت البشرية بشموليات علمانية كالفاشية. إن شرط الديمقراطية هو التعددية”. وقال تشارلس تيلور مؤسس آخر لمدرسة العلمانية: “ليس الدين مجرد شأن خاص ولا هو موسوم باللاعقلانية المطلقة بل ما ينادي به أشياء فوق مدركات العقول”، قال: علينا أن ننظر للعلمانية كمفهوم متحرك (دينامي) وأن ندرسها لا بصفتها متاريس ضد الدين ولكن باعتبار أنها تستجيب على نحو مبدئي للتنوع الذي لا غنى عنه في المجتمعات الحديثة.
هذه أسس تصلح لمراجعة موقف العلمانية من الدين.
إذا استثنينا المدارس المنكفئة على ظاهر النصوص والمتبعة للفقه الصوري وما أنتج من التزام بالتقليد فإن الاجتهاد الديني يعطي العقل حقه كاملاً في حدود مداركه. وآيات القرآن تحث على العقل والبرهان. وهي نصوص تكفل الحرية (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) . وتقر للإنسان بالتكريم من حيث هو إنسان: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) . وتوجب الالتزام بالعدالة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) وتوجب المساواة بين الناس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وتوجب السلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً) .
المطلوب هو مراجعات للخط الإسلامي على أساس العقل، والمصلحة، والضرورة، والواقع الزماني المكاني، والأولويات. واستصحاب الديمقراطية كأفضل وسيلة لإقامة العدالة.
كثير من غير المسلمين من العرب لا يرون صداماً حتمياً بين القومية والدين.
قال قسطنطين زريق: “الإسلام هو دين العرب القومي”. وقال مكرم عبيد: “أنا مسلم وطناً وقبطي ديناً”. وقال فارس الخوري: “أنا مسيحيي ديناً ومسلم حضارة”. وفي عام 1988م التقيت الأستاذ ميشيل عفلق في بغداد وأخذت على البعث الحرص على تناقض بين الإسلام والعروبة ما فتح باب حرب باردة بينهما. اعترف بهذا الخطأ ووعد بمراجعته. الانتماءات القومية العربية، والفارسية، والتركية وغيرها لا تتناقض مع الانتماء الإٍسلامي.
ما بين الاعتقاد الديني الإسلامي والانتماءات القومية، ومابين الانتماءات القومية واجبات تعايش في ظل التعددية، بحيث تصير دوائر الانتماء متداخلة ومتعايشة لا متنافرة ومتناقضة.
الانتماءات الإسلامية والقومية والوطنية، حلقات لكل منها مجالها، والحكمة، وهي من وصايا التنزيل، تتطلب التعامل معها كحلقات متداخلة لا متنافرة.
في كل التاريخ تأسيس المجتمعات على ديانة واحدة أو أيديولوجية واحدة أوجب الإكراه. هذا الدرس أدركته ثقافة العصر الحديث وفحواها أن المجتمع لا يقوم على أحادية دينية أو أيديولوجية أو اثنية. هذه حقيقة وجودية لا تنفي تعدد الانتماءات بل تنفي التعصب، وتؤكد أن الأحادية استحالة وجودية.
الشعبة السادسة: علاقات الأديان:
الاعتقاد الديني يقوم على الضمير ما يعني أنه لا يمكن أن يقوم على الإكراه. والاعتقاد الديني يصحبه غالباً رغبة في بسط هدايته فإذا بطل الإكراه تبقى الدعوة (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) .
كفالة حرية الاعتقاد الديني والالتزام بالتعامل (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هما الأساس الصالح للتعايش بين الأديان. وبالنسبة للمسلمين ينبغي أن ندرك أن للأسرة الإبراهيمية درجة من عقيدة مشتركة. قال تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
هذا التوجه أساس لعلاقة خاصة بيننا ولكن حتى مع غيرهم فإن التعايش واجب في ظل منظومة حقوق الإنسان العالمية.
الشعبة السابعة: التلاقح والتعايش الحضاري:
قال المؤرخ البريطاني الأشهر أرنولد توينبي: على الحضارة الغربية باعتبارها الآن الغالبة أن تعمل على تعايش ودي بين الحضارات باتخاذ الخطوات الآتية:
• أن تعترف بأن لحضارتها جذوراً إنسانية كثيرة فهي مدينة لحضارات أخرى.
• نعم لقد بلغت الحضارة الغربية شأواً عظيماً ولكن الحضارات الأخرى سوف تتفاعل معها على أساس حواضنها الحضارية.
• أن تدرك أن الحضارات الأخرى مثلما هي متلقية فهي مساهمة في مسيرة الحضارة الإنسانية.
عد تويبني “8” حضارات إنسانية كبرى وقال لا توجد حضارة غير مدينة لغيرها بعطاء. وعلى الإنسانية أن تدرك أن التعايش مع التنوع الحضاري هو قدر الإنسان.
الحجة لصالح هذه الصحوات السبع طريقاً للانتفاض من حالة الاحتضار لحالة استشراف مستقبل أفضل قوية.
ولكن لا يحقق الخلاص المنشود إلا توافر إرادة سياسية.
وقبل أن نتطرق لهذا الأمر اللافت للنظر أن الأمة العربية تجاور ثلاث دول في محيطها الإقليمي هي: تركيا، وإيران، وإسرائيل.
بضدها تتبين الأشياء. هذه الدول الثلاث تمتاز بثلاث خصال هي: أن حكامها مدنيون منتخبون، وأن قواتها المسلحة منضبطة مهنية، وأنها وطنت درجة عالية من التكنولوجيا الحديثة. بينما الدول العربية يحكمها عسكريون أو وارثون، وفي أهمها قواتها المسلحة تدير الحكم، ولا درجة تذكر في توطين التكنولوجيا.
اليوم في الدول العربية باستثناءات محدودة الحكم عديم المشاركة الشعبية معتمد على عشيرة الحاكم أو عشيرة الجندية. هذا الحيز الضيق للمشاركة الشعبية معطل للنمو السياسي، ومخل بالتنمية الاقتصادية، وعاجز عن توفير الأمن القومي الحقيقي لا الظاهري. لذلك صدر تقرير من الأمم المتحدة في 29/11/2016م قال: زاد عدد الدول المضطربة في العالم العربي من 5 في 2002م إلى 11 الآن ويتوقع أن يعيش 3 من 4 في العالم العربي في بلدان مضطربة في عالم 2030م.
ما العمل؟
الدولة الريعية:
قام استقرار الدول المنتجة للنفط لا سيما في منطقة الخليج على أساس عقد اجتماعي غير مكتوب فيه يوفر الحكام الرفاهية الاجتماعية بموجب الدخل الريعي دون اهتمام ملحوظ بالمشاركة السياسية.
في الثلاثين عاماً الماضية حدثت ثلاثة أمور مهمة:
• نمت طبقة مثقفة ثقافة عالية وذات تواصل قوي بالعالم وتواصل متين بين عناصرها ما جعل منهم قاعدة واسعة لوعي سياسي واهتمام كبير بالمشاركة في المصير.
• شعارات الربيع العربي وما حملت من تطلعات شدت إليها قوى اجتماعية ذات وزن.
• تدني أسعار البترول وهبوط إيرادات الحكومات أدى لتقليص دعم الخدمات والمواد الغذائية واتخاذ إجراءات ضريبية جديدة. وتاريخياً ارتبط تحصيل الضرائب بالمشاركة في القرار السياسي.
هذه الحالة تتطلب عقداً اجتماعياً جديداً. الغلاة يحاولون أن يكون النظام الجديد مشتقاً من صورة مثالية للماضي وهي صورة قابلة لإيجاد مناصرة لكنه وضع إن توافر له وفاء فإنه لا مستقبل له. الخيار الآخر هو تلبية شعارات الربيع العربي بموجب عقد اجتماعي جديد يحقق وفاءاً له مستقبل.
هذا يتطلب عقداً اجتماعياً يحقق تأصيلاً مستنيراً، ومشاركة ديمقراطية، وعدالة اجتماعية. إذا تصرف الحكام بحكمة فسوف يؤدي هذا لنظم ملكية دستورية.
الدولة الجمهورية
نظام الحكم في هذه البلدان يعتمد على سلطة تأسست نتيجة انقلاب عسكري. تجربتي تدل على أن العسكريين الذين يمارسون العمل السياسي بمنطق السياسة يقدمون عطاءاً سياسياً مميزاً عندما يكون ذلك عبر آلية مدنية فيها المشاركة والمساءلة. أما عندما تعتمد ولايتهم على تحويل المؤسسة العسكرية حزباً سياسياً لدعم السلطة فإن هذه الخطة محملة بالسلبيات:
• تحويل المؤسسة العسكرية إلى رافد حزبي للحكومة يودي بالانضباط العسكري ويفقدها قدراتها المهنية. الجيوش التي توظف حزبياً تفقد كفاءتها العسكرية حتماً. فالعسكرية تقوم على الطاعة والأقدمية أما العمل السياسي فإنه يوجب نظرة مختلفة تماماً. العمل السياسي علم، وثقافة، وفن وكذلك العمل العسكري ولكنه علم وثقافة وفن مختلف تماماً.
• ممارسة العمل السياسي بذهنية الأمر والنهي والاعتماد على الأجهزة الأمنية يجعل الأمن مقياساً لكل الأمور وتتحول الحكومة حتماً لآلة أمنجية. تحقق الحكومة الأمنجية استقراراً امنياً سطحياً وفي الخفاء يتحلق الناس حول ولاءات وراثية أو يتخندقون في أنشطة دينية وتعطل التنمية السياسية فتكون تجربة الحكم الأمنجي تجريفاً للوعي الفكري وللعطاء السياسي.
في ظروف معينة يمكن أن يلعب الانقلاب العسكري دوراً حميداً كعملية جراحية مؤقتة في ظروف استثنائية. ولكن أن يتحول الانقلاب إلى ولاية سياسية تتخذ من القوات المسلحة حزبها السياسي فسوف يصاب أداؤها بالفشل في أهم ملفات الحكم: الإدارة السياسية، والإدارة الاقتصادية، وإدارة العلاقات الدولية.
في العالم العربي الشباب في سن 15-29 يبلغ عددهم 105 مليون. ويعانون من نسبة عالية من العطالة تبلغ 30%، وتحيط بالمجتمعات درجة عالية من الفقر والحرمان. هذه العوامل تحاصر الحكومات الأمنجية وهي أصلاً غير مؤهلة للتعامل مع أية قضايا خارج الضبط الأمني بالعصا الغليظة. هذه الحالة سوف تقود إلى الانفجار. انفجار لا يحول دونه إلا تسليم السلطة للشعب عبر آلية مشاركة شعبية عريضة واستئناف القوات المسلحة لوظيفتها الأساسية.
ماذا إذا أصر الحكام واستكبروا؟
هشاشة الحكومات في المنطقة سوف تجذب ضدها حركات الغلاة وهي حركات تشد إليها تدخلات أجنبية فهذان أمراه متوقعان. ويتوقع أمر آخر وهو انطلاق حركات شبابية تلقائية على سنة الربيع العربي.
ولكن في الأفق كذلك احتمال انفجار النظم الأمنجية من داخلها لأن التحديات التي تواجهها سوف تشعل اختلافات داخل صفوفها. اختلافات ربما دفعت عناصر فيهم لحسمها بالقوة.
ولكن على صعيد آخر هنالك قوى سياسية يمكن أن تقوم بدور قيادي للاستجابة لمطالب الشعب المشروعة.
في المنطقة العربية في الشارع السياسي توجد الآن خمس حركات ذات درجة من الوجود. هذا إلى جانب العمل الدولي الذي سوف يتفاعل مع التطورات.
الحركات المقصودة هي: الحركة اللبرالية، والحركة القومية، والحركة الاشتراكية، والحركة الشعوبية، والحركة الإسلامية.
الحركة اللبرالية تنشد الحريات العامة وحقوق الإنسان ولكنها لتحقيق درجة أعلى من الجدوى تتطلب مراجعات: إن الديمقراطية السياسية وحدها لا تكفي بل تتطلب أن تصحبها ديمقراطية اجتماعية. وتتطلب مراعاة واقع التنوع الثقافي ما يستوجب التوازن.
الحركة القومية برافديها البعثي والناصري منيت بسلبيات كثيرة ولجدوى مشاركتها في المستقبل تتطلب التخلي عن الوسائل الانقلابية وعن النظام الأحادي وعن التناقض مع الإسلام ومع القوميات غير العربية.
الحركة الاشتراكية تتطلب الانحياز المبدئي للديمقراطية ولحقوق الإنسان التي تعلو على الطبقية ولآلية السوق الحر ذي الضوابط الاجتماعية. وعلى ضوء لاهوت التحرير والعدالة الاجتماعية في الإسلام مراجعة موقف العداء مع الدين.
الحركة الشعوبية أي الأفريقانية، والأمأزيقية، والكردية تتطلب مراجعة للتخلي عن العصبية والانتماء الوطني الموسع. وفي الإطار الأفريقي حيث ربط الأفريقانية بالإثنية، المطلوب تعريف قاري للأفريقانية.
الحركة الإسلامية لأسباب كثيرة الحركة الإسلامية عامة حائزة على رأس المال الاجتماعي الأكبر في المنطقة.
• لكن الحركة الإسلامية عرضة للغلو على نحو مقولة الشيخ عبد العزيز بن صالح: “إن أسامة بن لادن هو استمرار طبيعي لمحمد بن عبد الوهاب”. والحركات المسماة سلفية محقة في أمر الثوابت وشعائر الدين. أما في المتغيرات وهي المعاملات والعادات فلا تجوز، ما يوجب مراجعة أساسية تفرق بين الثوابت والمتحركات. ههنا المبدأ هو ما قاله ابن القيم “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال”. صارت مفاهيم سلفية حاضنة للغلو الذي صار تعبيراً غاضباً عن الاحتجاج على نحو ما قال وزير خارجية بريطانيا جاك سترو: “أحد العوامل التي ساعدت على نشأة الإرهاب هو الغضب الذي تشعر به شعوب كثيرة في المنطقة”. ولكن أقول إنه احتجاج بلا مستقبل.
• أما القوى التي رفعت شعارات إسلامية وخاضت تجربة في الحكم فعليها إجراء مراجعات أساسية كالآتي:
– التخلي عن الوسائل الانقلابية سبيلاً للولاية.
– التخلي عن مبدأ الحاكمية باعتبار السلطة السياسية شأن بشري.
– قبول التعددية الفكرية والسياسية والتنافس الحر على ثقة الشعب.
– الفصل التام بين الكيان الدعوي الذي مهمته الدعوة، والإرشاد والتربية ويخص المسلمين وحدهم. والسياسي الحزبي المفتوح لكل المواطنين والذي ينافس على بناء الوطن ويقبل التداول السلمي للسلطة وفق آلية المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.
– أما في النطاق الشيعي فمراجعة تجعل ولاية الفقيه في الأمور الشعائرية أما في الأمور السياسية فالولاية للأمة.
بموجب هذه المراجعات تؤهل القوى السياسية نفسها لقيادة التغيير في مواجهة للنظم الحاكمة أو في حوار معها لإقامة نظام جديد يحقق الصحوات السبع المذكورة.
إن هذه القوى السياسية يمكن بموجب المراجعات المذكورة أن تعمل على تحويل حالة الاحتضار إلى مخاض يبشر بفجر جديد.
الأبعاد الدولية:
1. السياسة الغربية لا سيما الأمريكية مسؤولة عن دعم إسرائيل، حتى غزوات إسرائيل، وهذا له دور مهم في صنع التطرف في المنطقة.
2. والسياسة الغربية لا سيما الأمريكية مسؤولة عن دعم النظم الدكتاتورية التي منعت التطور السياسي، واتبعت سياسة فرق تسد، وعندما أزيح الطغاة ظهرت التشققات الطائفية و الثقافية.
3. والسياسة الغربية لا سيما الأمريكية تتولى مسؤولية كبيرة عن دعم وتقوية القاعدة في أفغانستان.
4. ونفس السياسة مسؤولة عن نشأة داعش بعد احتلال العراق وتداعيات ذلك الاحتلال. وهم الآن يعترفون بالخطأ في احتلال العراق وكذلك بنتائج سياساتهم في ليبيا.
5. وفي أمريكا وأوروبا الآن حركة، إسلاموفوبيا واسعة تبنتها تيارات يمين أعمى ستكون آراؤه وسياساته دافعاً قوياً لحركات التطرف والغلو في المنطقة الإسلامية عامة والعربية خاصة.
6. وهنالك مناطق معينة يعاني المسلمون فيها اضطهاداً لأنهم مسلمون كالبطش بالروهنجا في ميانمار والبطش بالايغور في الصين.. اضطهادات تبرر عداوة الغلاة لكل ما ليس مسلماً. مدهش أن السيدة أونغ وقد منحت جائزة نوبل للسلام لصمودها في المطلب الديمقراطي تقود حكومة تبطش بحقوق الإنسان وحرية العقيدة ما يوجب أن يخاطبها الذين منحوها الجائزة بل كل دعاة حقوق الإنسان بمنطق:
إِذا فَـعَلَ الفَتى ما عَنهُ يَنهى فَـمِن جِهَتَينِ لا جِهَةٍ أَساءَ
فإذا واصلوا هذا النهج فإنهم بذلك سوف يرجحون كفة المتطرفين في التمدد في المنطقة.
إنه تمدد لا يستطيعون قهره بالوسائل العسكرية ولا يستطيع التصدي الناجح له إلا التحول الصحي المنشود في المنطقة.
الأسرة الدولية ذات الوزن ينبغي أن تدرك أن الدول الوطنية الهشة الحالية إلى أفول، وأن تراجع سياسياتها نحو المنطقة بما يساعد التحول الصحوي المنشود. إذا تغلبت الحركات الصحوية المحررة للشعوب فسوف يكون لها أثر كبير في تحالف موضوعي مع العالم المستنير لبناء عالم أعدل وأفضل.
أما إذا تحالف الغلو الدولي مع الغلو الذي يرفع شعارات إسلاموية فإنهما معاً سوف يقيمان عالماً ظلامياً. إنه الطامة لا سيما وفي المرحلة القادمة سوف تتاح وسائل تدمير.. أسلحة دمار شامل لدى طرفيها.
البلاد الغربية التي انتشرت فيها حركات الإسلاموفوبيا وبيغيدا تمتلك قدرات تدميرية هائلة. بالنسبة للغلاة الذين يرفعون شعارات إسلاموية فإذا لم تستأصل الدوافع لتكوينهم مهما حوربوا أمنياً وعسكرياً يمكن أن يغيروا أساليبهم ثم يواصلوا أعمالهم بامتلاك أسلحة أكثر تدميراً. لكي يتملك الإنسان أسلحة دمار شامل هنالك ثلاثة عوامل هي الإمكانات المالية، والتكنولوجيا، والدوافع.
لا سبيل لمنع الإمكانات المالية ولا للتكنولوجيا والسبيل الوحيد هو إزالة الدوافع التي تدفع نحو امتلاك أسلحة دمار شامل وطائرات دون طيار. هذه المساجلة بين الغلاة في الطرفين يدفعان نحو عالم ظلامي. ينبغي أن نواجه أسباب الغلو والإرهاب لدينا وفي إطار صحوتنا نزيلها وأن يدرك الآخرون في العالم أن لهم دوراً في صنع التطرف والعنف المصاحب له والعمل على إزالة تلك الأسباب لكي تتحالف الاستنارة في الطرفين لدحر الظلامية وبناء عالم أعدل وأفضل.. عالم يليق بالإنسان محل تكريم رب العالمين.