دعيت للتحدث عن أم درمان أيقونة السودان، وفيما يلي مقالتي، وأدعو جميع الحاضرين مشاركتي بما يرون من تأييد أو نقد، فالحكمة دائماً أن نصف رأيك عند أخيك وأختك، ومقولة عمر (رض): رحم الله امرءاً أهدي لنا عيوبنا. مقولة رددها أعظم فلاسفة الغرب ـ عمانويل كانط ـ بصورة أخرى بقوله: “النقد أقوى وسيلة للبناء عرفها الإنسان”.
المدخل:
بين أم درمان وأهلها علاقة عشق كأقوى ما تكون المحبة بين الإنسان والمكان . مشاعر رددها المغترب:
ضحيت بربوع أم در
وبالنيل الصباحو بسر
بدلت الصدف بالدر!
وأنشد عبد الله النجيب:
والله يا بلد الأمان
والله ياتاج المدن النايمة فوق عز الجدود
لو درت من عمري الغنا ولو درت من دمي القصيد
أهديك آيات البيان
واشدو وأقول بهواك نيل
وأهواك ناس
وأهواك فن
وأهواك يا روح الندى وروح الزمان
أقول:
الكائنات الحية ليست موجودات صماء، فالحيوانات (أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) لذلك تقوم بيننا وبينها مشاعر متبادلة تظهر أقوى ما تكون في القطط والكلاب والخيل:
وَما الخَيلُ إلاّ كالصّديقِ قَليلَةٌ
وَإنْ كَثُرَتْ في عَينِ مَن لا يجرّبُ
إذا لم تُشاهِدْ غَيرَ حُسنِ شِياتِهَا
وَأعْضَائِهَا فالحُسْنُ عَنكَ مُغَيَّبُ
كذلك الموجودات الجمادية المكانية ليست صماء، بل الطبيعة كلها: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْۗ).
إن بين الإنسان والمكان مشاعر جياشة عبر عنها قيس بن الملوح نحو جبل التوباد:
وأجْهَشْتُ لِلتَّوْبَادِ حِينَ رَأيْتُهُ
وكبَّر للرّحمـنِ حين رآني
وشوقي عبر عن عشق النيل:
ألم نكُ من قبل المسيحِ ابن مريمٍ
وموسى وطه نعبُدُ النيلَ جاريا
فَهلاَّ تساقيـْـنا على نخبِه الهَوَى
وهلاَّ فديْناه ضِفافاً ووادِيا
والمصطفى عليه السلام وهو يهاجر من مكة عبر عن مشاعره نحوها بحرارة، لذلك اعتـُبر طرد الإنسان من دياره أقسى أنواع العداوان (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْۚ).
ما بين أم درمان وأهلها مشاعر اعتبروها أيقونة السودان، أيقونة عبارة يونانية بمعنى صورة صارت في الثقافة الكنسية تعني شيئاً مقدساً. ومجازاً صارت العبارة تطلق على كل شئ أحتل مكانة خاصة في النفوس.
والسؤال المشروع هل لأم درمان خصوصيات تبرر لنا أن نصفها بأنها أيقونة السودان؟
نعم هنالك عشر خصوصيات تفسر وتبرر هذا الوصف هي:
أولاً: عبقرية المكان لدعوة مؤسسها الإمام المهدي فهي متصلة براً بغرب السودان حيث يوجد سند شعبي كبير للدعوة. ومتصلة براً بمصر حيث المرحلة الثانية لنشر الدعوة.
ثانياً: صارت أم درمان الحاضنة لعبقريات أهل السودان في وجه سياسات محتل أراد أن يمحو آثارها فاتسع سكانها حتى صارت أكبر مدن العاصمة المثلثة.
ثالثاً: الأنشطة الدينية الدعوية والصوفية اتخذت منها مراكز لنشاطها.
رابعاً: كذلك انطلقت في أحيائها الأنشطة الثقافية كالهاشماب وأبي روف.
خامساً: وصارت مركزاً لأهم أنشطة التعليم الأهلي المدني: الأحفاد، والمؤتمر وغيرهما.
سادساَ: وصارت مركزاً لمؤتمر الخريجين العام شعلة النهضة الوطنية.
سابعاً: وصارت مركزاً لتأسيس الأحزاب السياسية آليات بناء المصير الوطني. وفي ثورة أكتوبر بعد أحداث الخرطوم التاريخية: ندوة الجامعة، وموكب القضائية، تكون مركزان سياسيان في نادي الأساتذة بالخرطوم، وفي بيت المهدي في أم درمان، ثم انتقل قادة نادي الأساتذة وانضموا لنا في بيت المهدي ثم انطلق وفد التفاوض من أجل إقامة النظام الجديد. وفي انتفاضة رجب/ أبريل كان موكب جامعة أم درمان الإسلامية أول مسمار في نعش النظام المايوي. وفي يومنا هذا يرجى أن تنطلق من أم درمان المسيرة نحو النظام الجديد المنشود.
ثامناً: وصارت أم درمان عصبة أمم السودان، حاضنة لتنوعهم، ما يبرر مقولة عبد الله محمد زين: أنا أم درمان أنا السودان. وأحياؤها محملة بعبق التاريخ: العرضة، ودنوباوي، الملازمين، الموردة، بيت المال، وهلم جرا. ولترابها خاصية مباركة فمع صلابة أديمه خصوبة للنبات.
تاسعاً: وصارت أم درمان مركز النشاط الرياضي في البلاد حاضنة للهلال، والمريخ، والموردة والفرق التاريخية. إنها عاصمة الرياضة السودانية بلا نزاع.
عاشراً: صارت أم درمان مركزاً لصهر لهجات أهل السودان ما جعلها مركزاً لأنغام وأشعار ما عرف بحقيبة الفن، ولكنني أفضل أن أسميها زخيرة الفن لأنها بلغت بفن الغناء السوادني علواً لا يجارى، لذلك تبارى شعراء الحقيبة في التعبير عن عشق أم درمان كما قالوا:
في النيل بالجهة الغربية
أنظر معقل الوطنية… أم درمان
(عتيق)
أذكر بعقة أم درمان
وأنشر في ربوعها أمان
(خليل فرح)
يا أم درمان متى يكون
لي في روضك سكون
(ود الرضي)
يا عزة الفراق بي طال
وسال سيل الدمع هطال
طريت أم در طريت ناسا
كيف أسلاها وأتناسى
(العبادي)
امتى أرجع لأم در وأعودها
وأشوف نعيم دنيتي وسعودها
(عمر البنا)
نصوص في عشق أم درمان أختمها بأيبات السيدة سعدية عبد السلام:
الهوى الغلاب حب أم درمان
شايفاك مرح شفع صغار والدنيا عيد
يا ريت عيونك بالهوى الغلاب تحس
دسيني من صيف المواجع والشمس
متوحشاك يا بكرة والحاضر وأمس
هذه الصفات العشر تؤهل أم درمان أن تكون أيقونة السودان، ولكن الإنتماء لأم درمان ينبغي ألا يبرر عصبية لأم درمان، لأن العصبية رذيلة لا تقف عند حد سرد الفضائل والإنتماء بل تحجب وتنكر فضائل الآخرين.
على أهل أم درمان ألا ينكروا فضائل الآخرين وأن يعتبروا أنفسهم بصورة ما ممثلين للآخرين، فلكل أهل السودان نصيب في أم درمان على نحو ما قال النجيب:
قدمت للسودان مشاعل في العلم والفن وكل المكرمات.
قدمت للرايح مكان.
قدمت للخايف أمان.
قدمت للثوار صفات تاريخك العالي الصفات.
فيا أهل السودان أم درمان أمدرمانكم
الصورة التي رسمها نشيد أم درمان الأشهر:
أنا أم درمان أنا السودان
أنا الدرة البزين بلدي
هذا فيما يتعلق باستحقاق أم درمان أن تسمى أيقونة السودان.
ولكن بالنسبة لحاضرها فإن في وجهها الآن سبعة عيوب يرجى أن ندركها وأن نحرك إرادة قومية واعية لإزالتها هي:
عيوب في البنية التحتية.
وعيوب استلابية.
وعيوب في البيئة الطبيعية.
وعيوب في الممارسات التقليدية.
وعيوب في المتحفية.
وعيوب في الأنشطة الشبابية.
وعيوب البيئة البشرية.
أما في البنية التحتية، فينبغي الاهتمام بالأحياء العشوائية ومعالجة المسألة الإسكانية بطريقة ثورية لأن الوضع الحالي لا يمكن إصلاحه بوسائل روتينية. ونفس هذا الاهتمام يتعلق بالخدمات الاجتماعية الصحية، والتعليمية، والمياه، والكهرباء.
وهنالك مظاهر استلابية جعلت كثيرين يسمون محلاتهم تسميات لا صلة لها بثقافتنا مثل كوافير ديانا، ومقهى مكسيكانا والصداقة سنتر وسوبر ماركت الصحابة وصالون جنتلمان وغيرها.. إلخ. أولى أن تسمى برموز من ثقافتنا.
ويرجى الاهتمام بالبيئة الطبيعية لتشجير المنازل والشوارع بأشجار الفاكهة، والظل، والزينة.
وهنالك حاجة لأمرين مهمين هما النظافة فأم درمان الآن أشبه بكوشة عامة. كذا الحاجة لتجميل أم درمان. صحيح أن عدداً من الميادين العامة بيعت، وهي متنفس المدينة، ولكن الشاطئ وما بقى من ميادين يمكن أن تطولها يد التجميل.
وأكبر عورة في وسط أم درمان هو بيت شيخ الدين الأثري، وهو أنسب موقع لمكتبة مركزية لا لسجن مكانه في الأطرف.
وللأسف أعراسنا، وهي من أهم مظاهر التراث الثقافي، شوهت؛ فما يحدث في الأعراس من مظاهر الصالات، وفساتين الزفاف، رفع الصرف على الأعراس لدرجة لا يستطيعها غالباً إلا وارث، أومغترب، أو سارق أو مستثمر استطاع بمهارته مغالبة عقبات التمكين؛ فانخفضت نسبة الزواج إلى 25% فقط من الشباب وجأرت الشكاوى:
نحن البايرات يا جماعة
ولي الله يدينا بنرفع
شعارنا عريس متواضع
يا حي يا واهب أسمع
ما همنا حفلة وشيلة
بي حاجة قليلة بنقنع
ما همنا كبدة وشية
بي ويكة وكسرة بنشبع
ما شرط نجيب ثلاجة
يكفينا الزير البنقع
ومن أسوأ آثار التفاخر المادي نمو طبقة المطلقات. فللاعسار دور مهم في ذلك والمطلقات يواجهن ريبة اجتماعية وأعباء رفع كثير من الآباء يدهم عن الانفاق على أولادهم.
وعيوب في الممارسات التقليدية مست الموسيقى التي تعزف في الصالات غربية الألحان، لا يطرب لها المستمعون، ومست العيوب الأغاني الشعبية ملوثة لتقاليد بادي وأصحابه.
ومع كل ما في أم درمان من آثار تستحق الذكرى، فإن متحفنا الوحيد بيت خليفة المهدي جعله المحتلون وسيلة لإظهار عظمتهم، فالحاجة ماسة لتطويره وإضافة المادة المتحفية لأم درمان أيقونة السودان. كما أنه مهدد هذا الخريف بالانهيار بعد أن تآكل سقفه وملأته الأمطار الأخيرة بشكل يستدعي نفرة أهلية عاجلة، فالجهات الرسمية المعنية تكتفي بدور المتفرج. وهي نفرة يمكن أن يستقطب لها دعم اليونسكو كجهة عالمية معنية بحفظ التراث الإنساني في كل مكان.
ودور نشاط الشباب الحالية قاصرة ما يتطلب إحياؤها.
وأما الفرق الرياضية فقد أنهكها التسلط السياسي ما يوجب احترام استقلالها باعتبارها منظمات مجتمع مدني مستقلة وديمقراطية الإدارة.
البيئة البشرية: وقبل أن أختم حديثي عن البيئة الطبيعية لا يفوتني أن أتحدث عن البيئة البشرية. فمثلما علينا العمل على صلاح البيئة الطبيعية، علينا كذلك إصلاح البيئة البشرية. هذا موضوع واسع.. أحيلكم لكتابي “أيها الجيل“، وستوزع لكم خلاصة منه لأنه يتعلق باستقامة الإنسان مدير البيئة الطبيعية. ولكن موضوعاً واحداً سوف أذكره وهو أن هناك تلويثاً للبيئة البشرية أترافع ضده.
في تسعينيات القرن الماضي كنت في باريس وحضر محاضرة قدمتها عن حقوق الانسان في الإسلام بعض ممثلي بيوت الموضة الفرنسية أمثال فوج، وديور، وقلت فيما قلت إن وسائل التجميل عندنا صديقة للبيئة فالدخان نوع من حمام البخار، والدلكة منظف بمواد طبيعية، والحنة عشب طبيعي، طبعاً لم أتحدث عن وسائل التجميل البائدة ولله الحمد مثل الشلوخ و”دق” الشفاه واللثة وقطع الشكال.. إلخ. وقلت: لكن مواد الـMake-up عندكم معادية للبيئة، فكلها تقريباً مع كثرة الاستعمال (كالمساحيق، وتظليل الجفون، والماسكارا، والأحمر، وآلاف المنتجات) إما سامة أو مسرطنة. هذه الآن حقائق وأدعوكم للقوقلة تحت عنوان Cosmetics ، فسوف تجدون دراسة في جامعة كاليفورنيا أثبتت أن العاملين في صناعة المساحيق التجميلية احتمال أن يصابوا بورم سرطاني في العظام أربع مرات أكثر من العادة. وسوف تجدون أن أكثر من مائة ألف من منتجات تجميل الوجه وتلوينه مضمخة بـTitanium Dioxide، وZinc Dioxide، والزئبق، وغيرها من المبيضات. هذه ملوثات لبيئة الجسم الانساني.
بعد المحاضرة طلبوا مني أن أكتب مقالاً في إحدى مجلاتهم ولكنني إعتذرت.
والآن أخاطب بنات أم درمان وبنات السودان كلهن: يا بناتي، مثل اهتمامكن المشروع بالبيئة الطبيعية يمكن أن أقدم لكن محاضرة في التجميل الأفرنجي الجذاب على المدى القصير ولكن بثمنٍ غالٍ من الصحة، وستجدن بياناً موثقاً كيف أن الناس يدمرون بيئتهم الجسدية بعوامل كثيرة كالتبغ، والمخدرات، والكحول، والسمنة، وإهمال الرياضة البدنية، وغيرها مما هو عدوان على الصحة تماماً كالعدوان على البيئة الطبيعية. وطبعاً لا يفوتني أن أتحدث عن أهمية الضرورات الأخرى الروحية والعقلية والأخلاقية وغيرها، وستجدون بيانها في كتاب “أيها الجيل”. قال وزير الصحة الولائي: في كل بيت الآن مدمن مخدرات. وقبله قال مسؤول إن 30% من الشباب صاروا يعانون حالات نفسية، هكذا حقق المشروع الحضاري عكس مقاصده.
هذا اللقاء هدفه أن يثبت صفة أم درمان أيقونة السودان. وأن يذكر بعض عيوب الحاضر في أم درمان، بهدف التنبيه إليها والعمل على تلافيها.
هنالك الآن عدد من المبادرات الأم درمانية الكريمة، بعضها تقوم به المحلية ومعتمدها الأم درماني، وبعضها أهلي، واقتراحي هو أن نكوّن منبراً قومياً جامعاً لا يعزل أحداً ولا يهيمن عليه أحد تحت عنوان “أم درمان إلى الأمام”.. اقتراح أرجو أن يتجاوب معه الجميع، رسميون وأهليون.
وفي الختام أشكر المحضرين لهذا اللقاء، وأشكر الحاضرين، وأدعوهم للمشاركة في هذه البسمة في وجه أم درمان. ومن شاء أن يكشّر فهم أحرار فالحكمة تقول مع إمام دار الهجرة مالك: “ليس على مكره يمين”، مقولة كلفته ثمناً غالياً، والحقيقة أن قمع الحرية يسقط الأخلاق لأن تصرفات المكره لا مكان لها في ميزان الأخلاق.
والله ولي التوفيق.
3/8/2017م