دروس أفريقية مجانية للعقلاء
17/2/2018م
الإمام الصادق المهدي
لم ألتق الرئيس جنوب الأفريقي السابق جاكوب زوما، ولكنني كمتتبع للمشهد السياسي في جنوب أفريقيا، أدرك أن شعبه أخذ عليه خمسة مآخذ هي:
1. اغتصاب شابة مريضة بالإيدز، وهو رئيس الهيئة الوطنية لمحاربة هذا الداء.
2. إسرافه في إجراء إصلاحات في منزله في ضاحية نكوندلا على حساب دافع الضرائب بتكلفة 24 مليون دولار.
3. علاقة مشبوهة بأسرة قبتا الثرية، وعلاقة مصالح بينها وبين ابنه “دودوزان” وما بينهما من صفقات علي حساب المصلحة العامة.
4. قبوله لرشاوي ضمن صفقات شراء أسلحة من بعض مصدري الأسلحة.
5. عرقلته العدالة القضائية بعدم تنفيذ قرار محكمة الاستئناف العليا في البلاد بخصوص الرئيس السوداني (2015م).
مع كل هذه العيوب، وحقيقة أنه ما زال ملاحقاً قضائياً في بعضها، فإن هذا الرجل وهو يستمتع بسند قبلي كبير من قبيلة الزولو، وله سند مؤثر في حزب المؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا، قرر أن يمتثل لقرار لحزبه وأن يستقيل من رئاسة الجمهورية مع أن الدستور يمنحه عاماً لنهاية فترة رئاسته. ولكنه قرر الاستقالة وسيواجه ما يواجه من تبعات سياسية وقضائية دون الحصانة الرئاسية.
لقد قرر أن ينتصر للوطن وللديمقراطية على حساب مصالح ذاتية.
تحية تقدير لجاكوب زوما، ولعل شعبه يعامله بمنطق (الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ)[1].
أما الرئيس هيلي مريام ديسالين فقد قابلته، وأشهدُ أنه رجل مثقف ويمثل أنموذجاً محترماً لرجل الدولة الأفريقي. ولا شك أنه قاد بلاده في مرحلة حرجة، ولكن التكوين الثقافي والإثني والديني لسكان أثيوبيا متعدد بصورة حادة، ومع مكانته السياسية والعلمية العالية فهو ينتمي لقبيلة صغيرة في جنوب أثيوبيا، ولطائفة دينية مسيحية موحدة مقابل الأغلبية المثلثة بين المسيحيين في أثيوبيا.
لقد قاد البلاد رئيساً للوزراء منذ وفاة المرحوم ميليس زناوي، وسجل إدارته في المجال الاقتصادي والعلاقات الدبلوماسية جيد، ولكن الحزب الحاكم ينتمي لإثنية التقراي في الغالب لأن هذا الحزب، الجبهة الثورية الشعبية الديمقراطية، قاد الثورة الناجحة ضد نظام منقستو وأطاح به.
النظام الفدرالي الأثيوبي منح الولايات المختلفة صلاحيات لا مركزية كبيرة. ومنذ ثلاث سنوات قويت المعارضة للحكومة القائمة، وقام تحالف بين الأمهرا والأرومو ضد ما يعتبرونه سيطرة التقراي.
هذه المعارضة عبرت عن مواقفها باحتجاجات ومظاهرات ومواقف عصيان مدني أثناء الثلاث سنوات الماضية. قابلتها الحكومة بالقمع والاعتقالات، وهو أسلوب لا يتوقع أن يكون رئيس الوزراء مطمئناً له ولا مقتنعاً بفاعليته على المدى الطويل.
هذا الموقف القلق يفسر خطوتيه: الأولى: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والثانية: إخلاء مقعد الرئاسة بتقديم استقالته من أمانة الحزب الحاكم العامة ومن رئاسة الوزراء. إنه موقف مدرك للواقع، ومحيط بالعواقب، وملتزم بالمؤسسية والديمقراطية. ومع استقالته قال: إنني اعتبر استقالتي حيوية في محاولة تنفيذ إصلاحات من شأنها أن تؤدي إلى سلام وديمقراطية مستدامين. والنتيجة “رحم الله امرء عرف قدر نفسه”، ويرجى أن يقود موقفه لمراجعات سياسية مهمة تقوم على الوفاق الوطني والتزام بالديمقراطية.
ومهما صارت إليه التطورات بعد عهد هيلي مريم في الرئاسة، يحمد له هذا الموقف ليضع الجميع أمام مسئولياتهم الوطنية.
تحية تقدير للرئيس هيلي مريم ديسالين، وأطيب التمنيات للشعب الأثيوبي الشقيق أن يجعل من الأزمة فرصة لإصلاح المسار نحو المستقبل.
هذان درسان أفريقيان لعالم عربي يلصق رؤساءه على مقاعد الرئاسة عشرات السنين رغم إخفاقات كاسحة، ورغم نصوص دستورية مانعة، ولا تفصلهم من المقاعد إلا الثورات أو الممات.
ليت اللاصقين في مقاعد الرئاسة رغم الفشل الذريع ورغم الدساتير المانعة يتعظون من هذين الدرسين الأفريقيين.
والعناية تبعث نسائم ذات مضمون تكريمي للإنسان، فأثناء التحركات الشعبية الأخيرة في إيران أطل الرئيس حسن روحاني ليقول ينبغي أن نستمع لصوت الشعب وإن اختلفت الرؤى أن نلجأ للاستفتاء.
ومن المملكة العربية السعودية تطل أصوات لتحطيم البناءات الجامدة تناغماً مع نداءات الإصلاح.
إن للدرسين الأفريقيين في هذا المناخ المستمع لأصوات الشعوب وقعاً مهماً للعاقل الذي يتعظ بغيره، والمؤمن الذي يقول: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ۘ)[2].
ولكن قدر كثير من بلداننا الإصابة بصمم لا يسمعون إلا طبول الثورات والانتفاضات. لهؤلاء نردد مع الشاعر العراقي أحمد مطر:
طفح الليل ..
وماذا غير نور الفجر
بعد الظلمات؟
[1] سورة هود الآية (114)
[2] سورة الأنعام الآية (36)